في اليوم الوطني للمرأة، لم يجد الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي لمغازلة "الجنس اللطيف"، أفضل من الدعوة إلى تطبيق المساواة في الميراث و"شرعنة" زواج التونسية من غير المسلم؛ فالسبسي بدا عازمًا على حشد مناصراته من جديد واستعادة أصوات المليون امرأة اللاتي نصّبنه رئيسًا للجمهورية نهاية 2014.
دعوة الباجي قائد السبسي التي مثلت جوهر الخطاب، انتشرت بسرعة الضوء وافتكّت لها مساحة في جميع وسائل الإعلام العالمية الناطقة بالعربية على وجه الخصوص، بعد أن اكتسحت المنصّات الإعلامية الوطنية والسوشيال ميديا. إذ حازت المبادرة على اهتمام جميع المتابعين وتربّعت على عرش القضايا الوطنية وما فتئت قاعدتها تتّسع إلى أن أصبحت شأنًا عربيًا نظرًا لثورية القرار على مستوى الحقوق الفردية، ولما مثله من خروج عن جبة شيوخ الدين ومدارس الفقه الإسلامي.
كثيرون رأوا أن وصف خطاب رئيس الجمهورية بـ "التاريخي" من طرف الجهات المطّلعة قبل أيّام من تلاوته، كان صحيحًا لأوّل مرّة، فيما رأى آخرون أن الأمر لا يعدُو أن يكون توتيرًا لموضوع تم حسمه منذ زمن مع الرئيس السابق الحبيب بورقيبة ومن بعده المخلوع زين العابدين بن علي، وما دعوة السبسي الآن إلا تحديًا لمبادئ الدين الإسلامي الذي يمثّل عقيدة الشعب ومرجعيته الأولى.
طرح موضوع المساواة في الميراث ليس جديدًا في تونس، بل سبق تناوله في مراحل تاريخية مختلفة خاصّة من قبل جمعية النساء الديمقراطيات في عهد بن علي، وقد مثّل له هذا المطلب حينها ملفًا محرجًا ألقى بحمله إلى المفتي الذي رفضه تمامًا، مؤكدًا تعارضه مع النص الديني.
آخر الدعوات للمساواة في الميراث طُرحت السنة الفارطة تحديدًا في ربيع 2016 من قبل النائب المستقلّ مهدي بن غربية، ولكن بصيغة مختلفة بُنيت على مبدأ المساواة الاختيارية، ما يجعل من خصوصية هذه المبادرة اليوم هي كما رأته "جريدة المغرب" يتمثّل في خروجها من القصر الرئاسي.
سياقات الدعوة
دعوة رئيس الجمهورية لإقرار هذا القانون وإعلانه عن تشكيل لجنة مختصّة في الحقوق الفردية للنظر في هذا القانون وغيره ليست بريئة ولا عفوية بالمرّة، كما يُجمع معارضون، ذلك أن الوقت الراهن هو مرحلة استعداد وتحضير وطبخ للمعركة الانتخابية القادمة التي تُعدّ الانتخابات البلدية بعد أربعة أشهر أولى استحقاقاتها تليها التشريعية ثم الرئاسية في 2019.
الرئيس التونسي الذي انتُقد كثيرًا لتحالفه مع "حركة النهضة" ذات المرجعية الدينية، ما تسبّب في خسارته جزءًا كبيرًا من شعبيته، لذلك يسعى اليوم إلى ترميم صورته في أعين الحداثيين والتقدّميين، لا سيما وأنه يؤكّد على أنه الوجه الأخير للرئيس السابق الحبيب بورقيبة الذي ركّز مجلّة الأحوال الشخصية لبناء صرح حقوق المرأة التونسية بعد الاستقلال، من خلال الدعوة إلى إقرار قانون يُلغي أساس المرجعية الدينية ويؤكّد على مدنية الدولة وعلمانيتها.
السبسي يسعى بالتالي إلى ضرب خصمه السياسي الأقوى، "حركة النهضة"، حتى وإن كان استقال من رئاسة حزب "نداء تونس" إلا أن الحزب بقي تحت رئاسة نجله حافظ قائد السبسي الساعي إلى خلافة أبيه على رأس المشهد السياسي، من خلال كسب معركة البلديات والبرلمان. فهل من فرق بين الفتى وأبيه؟
قائد السبسي الذي أتم التسعين عامًا لم ينكر في كلّ مرة يسألونه فيها عن نيّته للترشح لرئاسيات 2019، وأبقى الأمر معلقًا بالزمن، يبدو أنه ينوي فعلًا الخروج من قصر قرطاج، وقد بدا حملته مبكّرًا في حركة استباقية تعيد إلى شخصيته ما فقدته من بريق، إما لتحالفه مع "النهضة" أو لصالح رئيس الحكومة يوسف الشاهد الذي تضعه استطلاعات الرأي على رأس الشخصيات السياسية التي تنال ثقة التونسيين، ويبدو أنه قد تحقّق له ما أراد.
تداعيات الدعوة
من الجانب الشعبي المجتمعي انقسم المجتمع كالعادة إلى مساند ورافض، بين من يرون في كلام الرئيس دعوة جديّة إلى إنصاف المرأة وإعادة حقوقها المسلوبة باسم الدين والتشريع الذي لم يعد يواكب الزمن ويجب تحيينه، وبين من يرى أن الأمر فيه تعدٍّ على قدسية النص القرآني الذي لا يحتمل الاجتهاد في المسلّمات.
قد يظنّ البعض أن الموقف الثاني يمثل الرجال، ولكنه على العكس من ذلك إذ هو موقف نساء كثيراتٍ يرين أن الشريعة الإسلامية لا يجب أن تمسّ وأن الموضوع لا ينبغي له أن يطرح أبدا. في ما يتعلق بالنشطاء من الصحافيين والمدونين والفنانين فإن الغالبية كانت مع القانون وإقرار المساواة في كافة المجالات.
يبدو موضوع الميراث، كأنّه تحوّل إلى دليل إثبات على تقدمية البعض ورجعية آخرين، فمن هم ضد القانون رجعيون، وبالتالي فإن المثقف أصبح في ورطة فإما أن يقرّ بضرورة المضي في هذه الدعوة الرئاسية، وإما فانه يُصبح محلّ هجوم من الفئة المساندة، ويبدو أن كثيرين خيّروا الصمت حيال المسألة ابتعادًا عن هذا المأزق.
المسالة لاقت رواجًا كبيرًا خارج البلاد أيضًا من قبل نشطاء على السوشيال ميديا وحتى من قبل الكتاب والصحافيين، وهنا نأخذ على وجه المثل رأيًا نسويًا معارضًا، وموقفًا رجاليًا مدعّماً وهما ما دونته الروائية اللبنانية رانيا محيو الخليلي على صفحتها في فيسبوك "الأنثى حصّتها نصف حصّة الذكر في الإسلام، لأنها معفية من مسؤوليات الأب والشقيق والزوج المجبرين بنفقتها" والإعلامي المصري باسم يوسف الذي دوّن هو أيضًا ما يلي "ألف مبروك لتونس تعديل قرارات الزواج و المواريث و طز في اللي مش عاجبه و يا رب تطقوا. الإجابة دايما تونس".
في الوقت الذي أعلن في الأزهر المرجع الفقهي الأوّل للمسلمين في العالم بتجاوز نص هذا القانون للنص الديني وتعدّيه على الشريعة الإسلامية وحدود الله، لم يحد ديوان الإفتاء التونسي عن قرار دعوة رئيس الجمهورية رغم أن القائم عليه عثمان بطيخ قد أقرّ بتعارضه مع الدين الإسلامي زمن بن علي. ديوان الإفتاء أصدر بيان مساندة للرئيس وصفه فيه بأب كل التونسيين وأنه كان رائعًا كالعادة وأن مقترحاته التي أعلن عنها تدعيم لمكانة المرأة وضمان وتفعيل لمبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات وأنهى البيان، بأن الباجي قائد السبسي محفوف بالعناية الإلهية الدائمة.
جمعية "الأئمة من أجل الاعتدال ونبذ التطرّف"، وجمعية "هيئة مشايخ تونس" من المنتظر أن تعقدا أيضًا ندوة صحفية يوم غد الخميس، للردّ على مقترحات رئيس الجمهورية ومناقشتها من الجانب الديني.
موقف حركة النهضة لم يتّضح إلى الآن، خصوصًا وأن الحركة ما زالت تدرس الموقف الشعبي العام والذي لا شك إنها ستتخذ قرارها على ضوئه، فرغم أن القيادي في حركة النهضة رفيق عبد السلام أكد أن حركته مع "حقوق المرأة كاملة وغير منقوصة، ولكن لا ينتظر كثير من التونسيين أن تصادق على شيء يتعارض مع ثوابت الدين وروح الدستور وما استقرّ عليه المجتمع لقرون متتالية.
جاء تصريح رئيس المكتب السياسي لـ "حركة النهضة" نور الدين العرباوي على النحو التالي "إن الحركة لا ترى أي إشكال في طرح موضوع المساواة في الإرث بين المرأة والرجل، طالما أن هذه المسألة ستُطرح ضمن ثوابت الدستور وفي إطار الالتزام بنص الإسلام وروحه.
يبدو أن الرئيس التونسي دحرج الكرة في ملعب الخصوم السياسيين بدعوته للمساواة في الميراث ليعيد لشخصيته مكانتها في المشهدية السياسية، ويستعيد لها بريقها المفقود منذ مدة، خصوصًا في أعين الحقوقيين والتقدميين، وينسحب هو من المشهد منتصرًا تاركًا في الحقيقة لخصومه قنبلة موقوتة سيحاولون فكّها بناء على نبض الشارع وحساسيات المجتمع التي لا تزال ضبابية حتى اللحظة.