02 نوفمبر 2024
تونس.. المساواة في الميراث وهذا الانقسام
تشهد تونس هذه الأيّام حراكا شعبيّا مدنيّا سلميّا عارما ومعبّرا، بدا فيه الشارع التونسي منقسما بشكل غير مسبوق إزاء محامل تقرير لجنة الحرّيات الفردية والمساواة. وعلى الرغم من أنّ رئيس الجمهورية، الباجي السبسي، لم يُعلن تبنّيه مضامين التقرير جملة وتفصيلا، وترك ما يطرحه من مسائل خلافية لتكون موضوع نقاش في الفضاء العام، فإنّ مبادرته التشريعية الجريئة بإقرار المساواة بين المرأة والرجل في تقسيم الميراث لم تلْق الإجماع المطلوب في صفوف المحافظين وبين الحداثيين أنفسهم. وتوزّع التونسيون، في هذا السياق، بين مَن ناصر مبادرة السبسي، فاعتبرها خطوة مهمّة على درْب تنزيل مبادئ الدستور في الواقع ومكافحة التمييز ضدّ المرأة وبين مَن عدّها "تبديلا لكلام اللّه، واعتداءً على الشريعة وفصلا لتونس عن محيطها العربي والإسلامي". ويُمكن، من منظور علم اجتماع الجموع وأنتروبولوجيا الدّاخل، تفسير حالة الانقسام المشهودة في المجتمع التونسي بشأن المساواة في الميراث بثلاث خلفيّاتٍ بارزة، أجّجت الجدل وعمّقت الاستقطاب في هذا الشأن. الأولى خلفية المرجعية الدينية، والثانية دينامية التوظيف السياسي، والثالثة الخلفية الحقوقية الكونية وارتباطات تونس بالخارج.
من الناحية الدينية، ترتبط مسألة تقسيم التركة في الوعي الجمعي التونسي بآيات الميراث الواردة في سورة النساء التي تُعتبر، في رأي جمهور الفقهاء، آياتٍ محكمةً قطعيّة الثبوت والدّلالة، لا تقبل النقض أو التغيير أو التأويل. واستقرّ العمل بها قرونا في المدوّنة الفقهية والمعاملات اليوميّة للنّاس، وهي في اعتقادهم مقدّسة، وهم إذ يحتكمون إليها في إدارة مواريثهم لا يأخذون بالضرورة في الاعتبار شرط المساواة التامة بين الجنسين، بقدر ما يرومون الامتثال لأوامر الله، وطلب مرضاته. لذلك يرون في الانتقال من قاعدة "للذّكر مثل حظّ الأنثيين" إلى
قاعدة للذّكر مثل حظّ الأنثى تفريطا في كلام الله، وتجاوزا لآيات الميراث. ذلك أنّهم يعتبرون أحكام التشريع الإسلامي في هذا المجال مقدّسة، نهائية، مؤبّدة، عابرة للزمان والمكان والعمران. ويُقابل هذا التصوّرَ أصحاب الرّأي القائل بضرورة مراعاة الجانب المقاصدي في الإسلام، وتكييف أحكام المعاملات بحسب مستجدّات الرّاهن التاريخي للمسلمين. ودليلهم في ذلك أنّ بعض آيات الأحكام تمّ تعليق العمل بها (آية حدّ السرقة زمن المجاعة) وأخرى تمّ الاستغناء عنها (آيات أحكام الرّق)، استجابة لتطوّرات الظرف التاريخي الحافّ بالاجتماع الإسلامي. ويرى آخرون تدبير شأن التركة أمرا اجتهاديا بشريا بامتياز، ولا حاجة فيه لمراجعة المتن الديني، بل يُحتكم في ذلك إلى التشريع الوضعي. ومن ثمّة، فإنّ تباين التونسيين في تمثّل المرجعيّة الدينيّة وتأوّلها ساهم في افتراقهم بشأن مسألة المساواة في توزيع الميراث بين الجنسين.
سياسيا، يمكن القوْل إنّ مبادرة الرّئيس السّبسي لا تخلو من خلفيّات سياسيّة وأيديولوجيّة، وتندرج بامتياز في صميم دينامية التوظيف السياسي لمشروع المساواة بين المرأة والرّجل، فاختيار توقيت الإعلان عن المبادرة لم يكن اعتباطيّا، ويرد في سياق تنافس الفرقاء السياسيين على كسب الانتخابات الرّئاسية والتشريعية سنة 2019، فمؤسّس "نداء تونس" يُدرك أنّ هذا الحزب فقد كثيرين من أنصاره، واعترته الشقوق بعد انتقاله من المعارضة إلى سدّة الحكم، ويعوّل على الانتصار لحقوق المرأة ليجمع الأتباع تحت راية الدفاع عن الدولة المدنية، وليضمن تصويت النساء له ولحزبه في الاستحقاق الانتخابي المقبل. وكذا ليؤكّد انتسابه إلى الفضاء البورقيبي من ناحية، وليظهر في صورة "الزعيم المجدّد" من ناحية أخرى. وفي المقابل، تريد الأحزاب المعارضة لهذا التوجّه، برفضها مبدأ المساواة في قسمة الميراث، الدفاع عن خلفيّات أيديولوجية مخصوصة، وتروم المحافظة على قاعدتها الشعبية التقليديّة، رافعة شعار الانحياز إلى ثوابت الهويّة القوميّة وتعاليم المرجعيّة الدينية، على نحو يسمح لها باستمالة قلوب المتديّنين وغيرهم، ويضمن لها استتباعهم في الانتخابات. ومن ثمّة، جرى تسييس مطلب قسمة الميراث بالتناصف بين الذكر والأنثى، وتحويله من مطلبٍ حقوقيٍّ إلى مطلب انتخابي، على نحو عزّز أسباب الاستقطاب والافتراق في الدّاخل التونسي.
ولئن بدت المبادرة الرئاسية بالتسوية في الميراث، في الظاهر، مبادرة شخصيّة، فإنّها في الواقع محكومةٌ بإكراهات الضغوط الخارجية، فالتزام تونس بالمعايير الحقوقية الدولية، وانخراطها في شراكة مع الاتحاد الأوروبّي جعلها معنيّةً بتنفيذ توصيات البرلمان الأوروبي الصّادرة في 14 سبتمبر/ أيلول 2016، والمتعلّقة بدعوة تونس إلى مراجعة عدة تشريعات، خصوصا ما تعلّق بنظام الأسرة وكيفية توزيع الميراث، قصد مكافحة أشكال التمييز ضدّ المرأة، وتعزيز مستوى الشراكة بين الطرفين، وتمكين تونس من مساعداتٍ مجزيةٍ في هذا الخصوص. ويُشار، في السياق نفسه، إلى أنّ مجلس نوّاب الشعب صادق في 2 مايو/ أيّار 2018 على بروتوكول الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب بشأن حقوق المرأة في أفريقيا، الصادر عن الاتحاد الأفريقي، والذي ينصّ على "أن يكون للنساء والرجال الحق في إرث ممتلكات أبويهم بحصص منصفة". وفي سياق متّصل، أبرمت تونس اتفاقيات مماثلة مع مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.
ومع أهمّية انخراط تونس في المنظومة الحقوقية الكونية، فإنّ كثيرين يخشون من أن يؤدّي ذلك إلى تفكيك النواة الأسرية وتهميش المنظومة القيمية الإسلامية، وارتهان البلاد إلى إملاءات
الجهات المانحة الدولية، ويرون أنّ المواطن التونسي أحوج حاليّا إلى تأمين حقّه في الماء والدواء، والعمل والسكن، والتنمية الجهوية العادلة والعيش الكريم قبل مسألة المساواة في الميراث التي تبقى مسألة جزئية بالنّسبة لجمهور المفقّرين الذين ليس لديهم ما يرثون أصلا. وتكفي الإشارة هنا إلى أنّ 55% من التونسيين يواجهون صعوباتٍ في تأمين احتياجاتهم، ولا يُغطّي الدخل الأسري نفقاتهم، بحسب المؤشّر العربي 2017.
ينسجم مشروع تقنين المساواة في الميراث بين الجنسين مع منطوق الفصل 21 من الدستور: إنّ "المواطنين والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات، وهم سواء أمام القانون من دون تمييز". لكنّ تنزيل هذا الفصل في الواقع يقتضي اعتبار الخلفيات الدينيّة، والسياسية، والخارجيّة، ومحاورتها والتكيّف معها على نحوٍ يضمن مراعاة الصالح العامّ، ويجنّب البلاد مساوئ الصراع على مسألة خلافية. مسألة كان في الوسع تأجيل النظر فيها، إلى حين قيام المحكمة الدستورية (المغيّبة عمْدا) أو الاحتكام إلى الاستفتاء بما هو آليّة ديمقراطيّة تعزّز المشاركة المواطنيّة، وتفصل في المسائل الخلافية، وتجعل القوانين مسنودة شعبيّا، لا مفروضة فوقيّا (بقوّة الرّئيس والنخبة، أو بقوّة المحاصصة الحزبيّة الضيقة في البرلمان).
من الناحية الدينية، ترتبط مسألة تقسيم التركة في الوعي الجمعي التونسي بآيات الميراث الواردة في سورة النساء التي تُعتبر، في رأي جمهور الفقهاء، آياتٍ محكمةً قطعيّة الثبوت والدّلالة، لا تقبل النقض أو التغيير أو التأويل. واستقرّ العمل بها قرونا في المدوّنة الفقهية والمعاملات اليوميّة للنّاس، وهي في اعتقادهم مقدّسة، وهم إذ يحتكمون إليها في إدارة مواريثهم لا يأخذون بالضرورة في الاعتبار شرط المساواة التامة بين الجنسين، بقدر ما يرومون الامتثال لأوامر الله، وطلب مرضاته. لذلك يرون في الانتقال من قاعدة "للذّكر مثل حظّ الأنثيين" إلى
سياسيا، يمكن القوْل إنّ مبادرة الرّئيس السّبسي لا تخلو من خلفيّات سياسيّة وأيديولوجيّة، وتندرج بامتياز في صميم دينامية التوظيف السياسي لمشروع المساواة بين المرأة والرّجل، فاختيار توقيت الإعلان عن المبادرة لم يكن اعتباطيّا، ويرد في سياق تنافس الفرقاء السياسيين على كسب الانتخابات الرّئاسية والتشريعية سنة 2019، فمؤسّس "نداء تونس" يُدرك أنّ هذا الحزب فقد كثيرين من أنصاره، واعترته الشقوق بعد انتقاله من المعارضة إلى سدّة الحكم، ويعوّل على الانتصار لحقوق المرأة ليجمع الأتباع تحت راية الدفاع عن الدولة المدنية، وليضمن تصويت النساء له ولحزبه في الاستحقاق الانتخابي المقبل. وكذا ليؤكّد انتسابه إلى الفضاء البورقيبي من ناحية، وليظهر في صورة "الزعيم المجدّد" من ناحية أخرى. وفي المقابل، تريد الأحزاب المعارضة لهذا التوجّه، برفضها مبدأ المساواة في قسمة الميراث، الدفاع عن خلفيّات أيديولوجية مخصوصة، وتروم المحافظة على قاعدتها الشعبية التقليديّة، رافعة شعار الانحياز إلى ثوابت الهويّة القوميّة وتعاليم المرجعيّة الدينية، على نحو يسمح لها باستمالة قلوب المتديّنين وغيرهم، ويضمن لها استتباعهم في الانتخابات. ومن ثمّة، جرى تسييس مطلب قسمة الميراث بالتناصف بين الذكر والأنثى، وتحويله من مطلبٍ حقوقيٍّ إلى مطلب انتخابي، على نحو عزّز أسباب الاستقطاب والافتراق في الدّاخل التونسي.
ولئن بدت المبادرة الرئاسية بالتسوية في الميراث، في الظاهر، مبادرة شخصيّة، فإنّها في الواقع محكومةٌ بإكراهات الضغوط الخارجية، فالتزام تونس بالمعايير الحقوقية الدولية، وانخراطها في شراكة مع الاتحاد الأوروبّي جعلها معنيّةً بتنفيذ توصيات البرلمان الأوروبي الصّادرة في 14 سبتمبر/ أيلول 2016، والمتعلّقة بدعوة تونس إلى مراجعة عدة تشريعات، خصوصا ما تعلّق بنظام الأسرة وكيفية توزيع الميراث، قصد مكافحة أشكال التمييز ضدّ المرأة، وتعزيز مستوى الشراكة بين الطرفين، وتمكين تونس من مساعداتٍ مجزيةٍ في هذا الخصوص. ويُشار، في السياق نفسه، إلى أنّ مجلس نوّاب الشعب صادق في 2 مايو/ أيّار 2018 على بروتوكول الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب بشأن حقوق المرأة في أفريقيا، الصادر عن الاتحاد الأفريقي، والذي ينصّ على "أن يكون للنساء والرجال الحق في إرث ممتلكات أبويهم بحصص منصفة". وفي سياق متّصل، أبرمت تونس اتفاقيات مماثلة مع مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.
ومع أهمّية انخراط تونس في المنظومة الحقوقية الكونية، فإنّ كثيرين يخشون من أن يؤدّي ذلك إلى تفكيك النواة الأسرية وتهميش المنظومة القيمية الإسلامية، وارتهان البلاد إلى إملاءات
ينسجم مشروع تقنين المساواة في الميراث بين الجنسين مع منطوق الفصل 21 من الدستور: إنّ "المواطنين والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات، وهم سواء أمام القانون من دون تمييز". لكنّ تنزيل هذا الفصل في الواقع يقتضي اعتبار الخلفيات الدينيّة، والسياسية، والخارجيّة، ومحاورتها والتكيّف معها على نحوٍ يضمن مراعاة الصالح العامّ، ويجنّب البلاد مساوئ الصراع على مسألة خلافية. مسألة كان في الوسع تأجيل النظر فيها، إلى حين قيام المحكمة الدستورية (المغيّبة عمْدا) أو الاحتكام إلى الاستفتاء بما هو آليّة ديمقراطيّة تعزّز المشاركة المواطنيّة، وتفصل في المسائل الخلافية، وتجعل القوانين مسنودة شعبيّا، لا مفروضة فوقيّا (بقوّة الرّئيس والنخبة، أو بقوّة المحاصصة الحزبيّة الضيقة في البرلمان).