21 يوليو 2024
تونس: سقوط حكومة وتحليل خطابها
يُعرف الخطاب السياسي بأنه من أشكال الخطاب المتعدّدة، ويستخدمه فرد أو جماعة أو حزب سياسي، من أجل الحصول على سلطة معينة عند حدوث أي صراع أو خلاف سياسي. وتستأنس دراسات العلوم السياسية بتحليل الخطاب، لتثبت مدى نجاح صاحبه أو إخفاقه في تحقيق ما يريد إيصاله إلى المتلقي بالصورة التي يضمرها. فللخطاب السياسي، كما يُجمع منظّرون، أهمية كبيرة تعود، سلبا أو إيجابا، على الجهة المستخدمة له، وتكمن أهميته في أنه أداة ضرورية وفاعلة لاكتساب السلطة، وتلجأ إليه القوى السياسية المختلفة من أجل الوصول إلى المراكز العليا، كمواقع رؤساء الدول أو الحكومات أو الزعامات للأحزاب وغيرها. ويهدف الخطاب السياسي، عادة، إلى إقناع الجهة الموجّه إليها، بالإضافة إلى تلقّي القبول والاقتناع بمصداقيته، من خلال وسائل وطرق كثيرة مدعّمة بالحجج والبراهين. ومن آليات هذا الخطاب البلاغة اللغوية والوسائل المنطقية الصحيحة والجمل التعبيرية التي تتناسب مع طريقة التواصل مع الأفراد ومع مقتضيات الموقف والمقام الذي يتم إلقاء الخطاب السياسي على أساسه. لذلك يعمل الساسة، في مناسباتٍ عديدة وحاسمة، على تقديم المعارضات والاحتجاجات على سياسة متبعة في المجتمع أو على برامج وخيارات من سبقهم أو من يعارضهم في صيغ تصاعدية تعمل، أو تسعى إلى إسقاط هذه السياسة باتجاه الحصول على سياسة أخرى، وبالتالي منظومة حكم آخر.
وعادة ما يكشف هذا الخطاب عن طرق بناء السلطة وأشكال التمييز ومجمل التمثلات الاجتماعية والمتخيل السياسي لصاحبه. وفي النهاية، يعتبر الخطاب السياسي من أهم العوامل المحدّدة في تحقيق الأهداف السياسية للأحزاب والزعماء. فما هي السمات التي تميّز بها خطاب رئيس الحكومة التونسية الذي تم تكليفه بتشكيلها، ولم يمرّرها البرلمان، الحبيب الجملي، في تقديمه برنامج حكومته التي أسقطها البرلمان التونسي في 10 يناير/ كانون الثاني الجاري؟ وإلى أي مدى أسهم هذا الخطاب في تأسيس صورةٍ سلبيةٍ للموقف إجمالا أثرت، مع عوامل موضوعية أخرى، في عدم نيل الثقة؟
من مجمل القراءات التي اهتمت بهذا الخطاب وسعت إلى تحليله، يمكن التوقف عند قراء الباحثة والأكاديمية آمال قرامي، التي ترى أن الجملي ينظر، من خلال خطابه، إلى عالم السياسة،
باعتباره مجالا ذكوريا وحقا مشروعا للرجال فقط، فمن خلاله يمتلكون السلطة ويدعمون امتيازاتهم ومواقعهم داخل المجتمع. ووفق هذا التصور، كانت معظم نقاشات الجملي مع الرجال، وكان الخطاب الذي صاغه للحديث عن تشكيل الحكومة متضمّنا عبارات: "المترشحين، المواطن، التونسي، الشغيل، المستثمر، الفلاح، القادة التونسيون، الشهداء...". وتذهب الباحثة إلى أن الجملي حاول توشية خطابه ببعض العبارات الأنثوية، مثل "التونسيات والمواطنة وبنات تونس..."، إلا أنه عجز في النهاية "عن جندرة لغته والتعبير عن رؤية إدماجية تقر بأن المرأة ليست وافدة على عالم السياسة، بل هي حاضرة في كل مجال، باعتبارها مواطنة كاملة الحقوق"، وبذلك فقد الخطاب كل ما يرسخ ثقافة المواطنة ومناهضة التمييز.
وفي قراءة أخرى لهذا الخطاب، يذهب بعضهم إلى أنه خصص حيزا مهما للمسألة الاجتماعية، وهو أمر طبيعي، يعكس تماما مجمل التحديات والشواغل التي يمر بها المجتمع التونسي في واقعه المعيش. ولكن الخطاب اختلط فيه الأمر بين الوعود الانتخابية والبرامج الاجتماعية المجسّمة في قرارات وإنجازات ملموسة، مع غياب السقف الذي حدّده هذا الخطاب نفسه، ليسقط في الشعبوية الفجّة والانتهازية الرامية إلى إقناع المستمعين، وبالتالي الظفر بأصواتهم، خصوصا أن الخطاب الاجتماعي قابل بطبعه لهذا الشحن العاطفي، فقاموسه يحتوي على عبارات ووعود ذات قدرة كبيرة على التأثير في الناس وتعبئتهم، فهو يستثمر في عواطفهم وغرائزهم وأحلامهم، حافرا في مخيالهم الجمعي صورا لفساد النخب، وفشل السياسات الاجتماعية، توظيفا لغضب الناس وسعيا إلى استمالتهم. وفي هذا السياق، نتفق مع منظّر السياسات الاجتماعية، الوزير محمد الطرابلسي، الذي يعتقد أن "التمظهرات الشعبوية تبرز في الممارسات السياسية بدرجاتٍ متفاوتةٍ حسب السياق العام، ولكنها تأخذ منحى أكثر خطورة عند الأزمات والكوارث، أو خلال الانتخابات، كما حصل في تونس. والنزعة الشعبوية عموما، ولئن اختلفت في ظهورها ونتائجها، بحسب الظروف التاريخية والسياسية والاجتماعية في بلد ما، إلا أنها تتفق على تقديم نفسها توجها يقدّس الشعب، وتعتبر الجموع محقّة دائما وتنزلها منزلةً مثاليةً في مقابل شيطنة النخبة "الفاسدة" في المطلق
والمخطئة على الدوام، والتي يتوجب إزاحتها، سواء كانت نخبة سياسية أو ثقافية أو من المجتمع المدني". والواقع أن خطاب الجملي عكس هذا المنحى الشعبوي تماما، فقد استهل خطابه بأنه "ابن الشعب ويتوجه إلى الشعب"، وأنه مع حكومته سيعمل على إيجاد الحلول للمشكلات التي يواجهها هذا الشعب، سواء في المجال السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، مركّزا على أنه سيعمل، وفريقه، على وضع حد لحالة البطالة والفقر وانخفاض معدلات النمو وارتفاع مؤشرات التضخم والعجز التجاري لدى أعداد مهمة من الشعب التونسي. ولكن خطاب الجملي أهمل بيان آليات تنفيذ هذه الوعود الشعبوية، ومصادر توفير ما تستوجبه من تمويلات. وبذلك، ظل خطابه في المسالة الاجتماعية طوباويا وعاطفيا إن لم نقل شعبويا بامتياز، ليترك مجالا واسعا لتعليقات المتابعين والملاحظين القائلة إن الشعبوية عندما تتمكّن من السلطة تقوم بنمذجة المجتمع، بإلغاء التنوع والتعدّد والحوار، وهو ما يفسح المجال أمام مفارقة إنتاج نخبةٍ جديدةٍ من الشعبويين، تستبيح الحريات والحقوق من أجل التموقع في السلطة حد التفرّد. وهو ما دعا أحد السياسيين إلى وصف الرئيس المكلف السابق "مشروع دكتاتور"!
وجاء خطاب الجملي مفتقدا لقراءة موضوعية للأسباب التاريخية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لنشوء "مجتمع الفوارق" الذي ترسّخت ملامحه مع كل الحكومات التي أعقبت الثورة، بما يحمله من لامساواة وتمييز وغياب دور الدولة ومكانتها. وكذلك تقصير في ضبط الأولويات الوطنية، بما يقتضيه ذلك من ترتيباتٍ مؤسساتيةٍ وإمكانات مادية، وتعبئة مجتمعية، لتقليص المسافات التنموية بين مناطق البلاد، والحد من مظاهر الحيف بين الشرائح الاجتماعية والأفراد، من أجل مجتمع تونسي لا مجال فيه للعنف والتطرّف والشعبوية. وكما ردد مانديلا أن "الفقر تماما كالعبودية أو الميز العنصري ليس ظاهرة طبيعية، البشر هم من أوجدوه وتسامحوا معه، والبشر وحدهم هم القادرون على الانتصار عليه".
خلا خطاب الجملي تماما كذلك من تصور استراتيجي للحفاظ على الديمقراطية الناشئة في بُعدها المتواصل مع الشأن الاجتماعي الذي يتجاوز الفصل بين السلطات التي حصرها مونتسكيو في التنفيذية والتشريعية والقضائية، إذ لم يتفطّن هذا الخطاب لأي بعد آخر للديمقراطية، كاعتبار السلطة الاقتصادية والخضوع لمبدأ الاقتسام والتشاركية من أسس الديمقراطية وتحصينها وضمان استمرارها وشموليتها. إذ لا يمكن أن نبني مجتمعا ديمقراطيا في معزلٍ عن علاقاتٍ اقتصاديةٍ جديدة، انطلاقا من المنشأة الاجتماعية، لنستلهم من معاني المشاركة ما يؤسّس لمجتمع تشاركي في المجال الاقتصادي، ينصهر ضمن سياسة محاربة الفقر والتمييز واللامساواة. أما في مواجهة ما يثار من أسئلة عن تراجع الدبلوماسية التونسية وانحسار دورها إزاء التحدّيات التي تجابهها تونس، وتحديدا المسألة الليبية، وانشغال الرأي العام التونسي بتداعياتها، فإن الجملي قد اكتفى بكلمات مستهلكة، على غرار الحياد والشرعية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.. ما شكل ضعفا إضافيا في كلمته. ومجمل القول، فإن المعطيات سالفة الذكر تؤكد، ومن منظور التحليل الخطابي، أن خطاب نيل الثقة شكل استهلالا حاسما لسقوط الحكومة، تضاف إليه عوامل سياسية ومنهجية أخرى اجتمعت على فشل الجملي في نيل الثقة لحكومته.
من مجمل القراءات التي اهتمت بهذا الخطاب وسعت إلى تحليله، يمكن التوقف عند قراء الباحثة والأكاديمية آمال قرامي، التي ترى أن الجملي ينظر، من خلال خطابه، إلى عالم السياسة،
وفي قراءة أخرى لهذا الخطاب، يذهب بعضهم إلى أنه خصص حيزا مهما للمسألة الاجتماعية، وهو أمر طبيعي، يعكس تماما مجمل التحديات والشواغل التي يمر بها المجتمع التونسي في واقعه المعيش. ولكن الخطاب اختلط فيه الأمر بين الوعود الانتخابية والبرامج الاجتماعية المجسّمة في قرارات وإنجازات ملموسة، مع غياب السقف الذي حدّده هذا الخطاب نفسه، ليسقط في الشعبوية الفجّة والانتهازية الرامية إلى إقناع المستمعين، وبالتالي الظفر بأصواتهم، خصوصا أن الخطاب الاجتماعي قابل بطبعه لهذا الشحن العاطفي، فقاموسه يحتوي على عبارات ووعود ذات قدرة كبيرة على التأثير في الناس وتعبئتهم، فهو يستثمر في عواطفهم وغرائزهم وأحلامهم، حافرا في مخيالهم الجمعي صورا لفساد النخب، وفشل السياسات الاجتماعية، توظيفا لغضب الناس وسعيا إلى استمالتهم. وفي هذا السياق، نتفق مع منظّر السياسات الاجتماعية، الوزير محمد الطرابلسي، الذي يعتقد أن "التمظهرات الشعبوية تبرز في الممارسات السياسية بدرجاتٍ متفاوتةٍ حسب السياق العام، ولكنها تأخذ منحى أكثر خطورة عند الأزمات والكوارث، أو خلال الانتخابات، كما حصل في تونس. والنزعة الشعبوية عموما، ولئن اختلفت في ظهورها ونتائجها، بحسب الظروف التاريخية والسياسية والاجتماعية في بلد ما، إلا أنها تتفق على تقديم نفسها توجها يقدّس الشعب، وتعتبر الجموع محقّة دائما وتنزلها منزلةً مثاليةً في مقابل شيطنة النخبة "الفاسدة" في المطلق
وجاء خطاب الجملي مفتقدا لقراءة موضوعية للأسباب التاريخية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لنشوء "مجتمع الفوارق" الذي ترسّخت ملامحه مع كل الحكومات التي أعقبت الثورة، بما يحمله من لامساواة وتمييز وغياب دور الدولة ومكانتها. وكذلك تقصير في ضبط الأولويات الوطنية، بما يقتضيه ذلك من ترتيباتٍ مؤسساتيةٍ وإمكانات مادية، وتعبئة مجتمعية، لتقليص المسافات التنموية بين مناطق البلاد، والحد من مظاهر الحيف بين الشرائح الاجتماعية والأفراد، من أجل مجتمع تونسي لا مجال فيه للعنف والتطرّف والشعبوية. وكما ردد مانديلا أن "الفقر تماما كالعبودية أو الميز العنصري ليس ظاهرة طبيعية، البشر هم من أوجدوه وتسامحوا معه، والبشر وحدهم هم القادرون على الانتصار عليه".
خلا خطاب الجملي تماما كذلك من تصور استراتيجي للحفاظ على الديمقراطية الناشئة في بُعدها المتواصل مع الشأن الاجتماعي الذي يتجاوز الفصل بين السلطات التي حصرها مونتسكيو في التنفيذية والتشريعية والقضائية، إذ لم يتفطّن هذا الخطاب لأي بعد آخر للديمقراطية، كاعتبار السلطة الاقتصادية والخضوع لمبدأ الاقتسام والتشاركية من أسس الديمقراطية وتحصينها وضمان استمرارها وشموليتها. إذ لا يمكن أن نبني مجتمعا ديمقراطيا في معزلٍ عن علاقاتٍ اقتصاديةٍ جديدة، انطلاقا من المنشأة الاجتماعية، لنستلهم من معاني المشاركة ما يؤسّس لمجتمع تشاركي في المجال الاقتصادي، ينصهر ضمن سياسة محاربة الفقر والتمييز واللامساواة. أما في مواجهة ما يثار من أسئلة عن تراجع الدبلوماسية التونسية وانحسار دورها إزاء التحدّيات التي تجابهها تونس، وتحديدا المسألة الليبية، وانشغال الرأي العام التونسي بتداعياتها، فإن الجملي قد اكتفى بكلمات مستهلكة، على غرار الحياد والشرعية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.. ما شكل ضعفا إضافيا في كلمته. ومجمل القول، فإن المعطيات سالفة الذكر تؤكد، ومن منظور التحليل الخطابي، أن خطاب نيل الثقة شكل استهلالا حاسما لسقوط الحكومة، تضاف إليه عوامل سياسية ومنهجية أخرى اجتمعت على فشل الجملي في نيل الثقة لحكومته.
دلالات
مقالات أخرى
25 اغسطس 2023
02 اغسطس 2023
14 يوليو 2023