"كيف يمكن حماية الديمقراطية من أعدائها؟"، بات السؤال المطروح بإلحاح هذه الأيام في تونس، من قبل أحزاب عديدة استشعرت الخطر، عشية استعدادها لخوض الانتخابات البرلمانية والرئاسية في أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني على التوالي، لا سيما أن النتائج قد تؤدي إلى قلب موازين القوى وإعادة تشكيل الخارطة السياسية بشكل جذري. وهناك من يسوّق لاحتمال سقوط الأحزاب التي تسيدت المشهد السياسي بعد الثورة سواء في السلطة أو في المعارضة، مقابل عودة النظام القديم أو صعود أفراد من خارج المنظومة التي سادت منذ 14 يناير/ كانون الثاني 2011. وكشفت استطلاعات الرأي الأخيرة عن حصول تحولات عميقة من شأنها أن تضع البلاد أمام تحديات غير مسبوقة، وقد تفرز، في حال أكدتها الانتخابات المقبلة، مشهداً مختلفاً يضمّ الكثير من المخاطر، وقد يؤدي إلى مآزق سياسية واقتصادية أكثر تعقيداً وخطورة. ولعلّ من أهم هذه المتغيرات إظهار التونسيين رفضاً متزايداً لمختلف الأحزاب سواء الحاكمة منها أو المعارضة. بمعنى آخر لم تتحول التعددية الحزبية إلى جزء من العقيدة العامة لدى المواطنين. ويسود حالياً اعتقاد بأن هذه الأحزاب تبدو عاجزة عن مواجهة المعضلات الاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بالبلاد منذ سنوات. كما أدت شيطنة الأحزاب إلى اتهام الطبقة السياسية بكونها مشغولة في صراع محموم من أجل الانفراد بالسلطة، من دون الاهتمام بمشاكل المواطنين اليومية المتعلقة أساساً بتدهور قدرتهم الشرائية. فقد خسرت الأحزاب إلى حد الآن معركة بناء الثقة، ويكاد الكثير منها يفقد الحدّ الأدنى من المصداقية لدى التونسيين.
في هذه الأجواء وجدت حركة النهضة نفسها مهددة بتقلص قاعدتها الانتخابية، وهو ما من شأنه أن يجعل منها حزباً مرشحاً لمغادرة الحكم، وأن يفرض عليها الانتقال إلى صفوف المعارضة في حال رفضت بقية الأحزاب التحالف معها خلال المرحلة المقبلة. وهو مصير تعمل القيادة الحالية على تجنّبه خشية من أن يؤدي ذلك إلى عزلها وتهميشها، ويسهل حسب اعتقاد رئيس الحركة راشد الغنوشي، ضربَها والعمل على عزلها سياسياً.
والأخطر من ذلك أن المواقف المبدئية أصبحت قليلة، وأن الكثير في الفاعلين السياسيين داخل البرلمان وخارجه، انخرطوا في "السوق الموازية"، يقايضون خصومهم من أجل التصويت على الموقف أو نقيضه. بالتالي فإن المشكلة القائمة حالياً ليست فقط قانونية بل سياسية أيضاً. الديمقراطية التونسية في مأزق بعد أن تعددت المخاطر المحدقة بها. لقد تألب عليها الخارج والداخل من أجل إجهاضها وتشتيت جهودها. حتى إسرائيل انخرطت بقوة في إضعاف تونس واستنزاف قوتها، إذ تعددت الحوادث التي كشفت التحقيقات عن وقوف أطراف إسرائيلية وراءها. لكن على الرغم من أهمية العوامل الخارجية في تخريب الثورات وطاقاتها، إلا أن المسؤولية الرئيسية تقع على الأطراف المحلية التي ارتكبت سلسلة من الأخطاء الكبرى، تراكمت تدريجياً وأضعفت القدرة على الصمود والمقاومة. لا يعني هذا أن التجربة التونسية قد انهارت وانتهت. الفرصة لا تزال قائمة، والجهود لا تزال تُبذل من أجل إنقاذ الثورة. لا بد من انتظار الانتخابات التي ستكون حاسمة وستؤدي إلى نتيجة من اثنتين: إما إنقاذ المسار وتصحيحه، أو إجهاضه ودفنه نهائياً.