"لم أكن أحسن القراءة والكتابة، ذات يوم طلب مني زوجي أن أوقّع على وثائق، ما ورطني، وقادني إلى سجن النساء بمنوبة (وسط تونس العاصمة) حكم علي إثرها بعامين، قضيت منهما الآن 6 أشهر، ولكني خلال هذه الفترة تعلمت القراءة والكتابة ضمن برنامج خصصته إدارة سجن النساء لتعليم الكبار، والآن أعمل داخل السجن كأي إنسان عادي في ورشة إعداد الحلويات التقليدية من الثامنة صباحا إلى الثالثة بعد الزوال، وأنا متشوقة لنيل دبلوم في الحلويات سيمكنني من إحداث مشروع خاص، أو إعداد الحلويات في بيتي، ثم بيعها، فهذه المهنة مربحة جدا، وبالتالي سأتمكن من إعالة أطفالي الخمسة".
هكذا تحدثت السجينة (ف) 30 عاما، كانت في مكان إعداد الحلويات، سمح لـ"العربي الجديد" بزيارته، بعد عبور البوابة الحديدية التي كان يوجد فيها الحراس، وأهالي السجينات ممن جلبوا "القفة" التي تتضمن مأكولات وحاجات تطلبها السجينات.
بعد المرور بإدارة السجن، وصلنا إلى قاعة إعداد الحلويات، وهي قاعة كبيرة تحتوي على معدات وأفران، وكانت بها بعض المواد الأولية المخصصة لإعداد الحلويات، كانت السجينات، كخلية نحل منهمكات في العمل، وقد يخيل إليك للحظات أنك في محل لإعداد الحلويات لولا البوابات الحديدية، ووجود بعض الحراس في الممرات.
(و) أم لبنتين من محافظة نابل، فتاة في مقتبل العمر، حكم عليها بقضاء عام في السجن، تقول لـ"العربي الجديد" إنها قضت الآن 9 أشهر من العقوبة، وعملت في السابق أي قبل دخولها السجن في مجال الخياطة، وصناعة الفخار، أهم صناعة تشتهر بها منطقتها، مبينة أنها أرادت تعلم شيء جديد داخل السجن، فاختارت مجال الحلويات.
وتقول إن العمل هنا، ينسيها في كثير من الأحيان أنها سجينة، كما أنها لا ترغب في البقاء في الزنزانة، وقضاء يومها محبوسة هناك، وبالتالي تحرص على القدوم إلى هذه الورشة حيث تكون الفرصة سانحة لتلتقي بسجينات أخريات، وتتقاسم معهن الآلام والمحن. وأشارت إلى أنّها اتصلت بوالدتها لتخبرها أن السجن، ورغم قساوة التجربة لم يغيرها إلى الأسوأ بل إنه سيجعل منها إنسانة جديدة، وأنها ستستغل ما تعلمته لتأمين حياتها، وحياة طفلتيها.
وترى (ز) التي دخلت السجن في مرة أولى، ثم غادرته وعادت إليه سريعا بعد ارتكابها جريمة قتل، أن المجتمع كان قاسيا عليها كثيرا، وأن النقمة دفعتها لتكرار الجرم نفسه، مؤكدة أن بعض أقربائها كانون يسخرون منها، ويعتبرون أن ما تعده من حلويات ملطخ بالدماء، وقالت إنهم كانوا يرفضون تناول الحلويات التي تعدها، أو شراءها، كما أن عجزها عن تأمين ضروريات الحياة من نفقات استئجار منزل وتنقّل دفعها إلى العودة عالم الجريمة مجددا.
وقالت (ز) تعلمت صناعة الزربية، وهي من الصناعات التقليدية، ولكن للأسف هذه المنتوجات لم تعد تلقى رواجا كبيرا لأنها لم تعد مطلوبة، أما الحلويات فهي مهنة جيدة ومربحة. وأوضحت أن شقيقاتها متعلمات، وهي نادمة على ما اقترفت.
اقرأ أيضا: واشنطن تدعو للإفراج عن 20 "سجينة سياسية" في العالم
غير بعيد عن فضاء الحلويات، كان مدرب الموسيقى يعزف على آلته، والسجينات يرددن بحناجرهن أغاني تعبر تارة عن الحزن، وتارة أخرى عن الأمل. اختار المدرب مروى 27 عاما، كانت تبدو أصغر بكثير من سنها، صوت شجي، صقل في نادي الموسيقى بعد أن تعلمت الأوزان ومخارج الحروف، وغنت أغنية أطربت الحاضرين.
وقالت إحدى السجينات، سيدة بدت في عقدها الخامس، إنها تستمتع كثيرا بحصة الموسيقى، فهي بمثابة علاج ودواء للروح، وأضافت إن الموسيقى تنسي السجينات آلامهن همومهن، فهن يعبرن بأصواتهن الشجية عما يختلج مشاعرهن، كما أنهن ينتظرن بفارغ الصبر هذه الحصة التي تمارس مرتين فقط في الأسبوع.
وأشارت إلى أن الحرّية لا يضاهيها أي شعور في العالم، رغم أن السجن عبارة عن عالم مصغر لما يحدث في العالم الخارجي، فهن يمارسن حياتهن بصفة عادية إلا أن الحرية كنز لا يفنى، معتبرة هواء العالم الخارجي لا مثيل له.
كانت قاعة الخياطة والحلاقة مقفلتين، بسب بعض أشغال التوسعة، وفي بعض الممرات كانت بعض السجينات أمام قاعة خصصت لغسل الملابس، ووسط ساحة صغيرة انتشرت عديد الملابس التي تم تنظيفها حديثا، كما كتب على كل غرفة اختصاصها فهذه للموقوفات، وأخرى للاستحمام.
وصلنا إلى قاعة الرياضة، كانت بعض السجينات يتدربن بمفردهن على بعض الآلات الرياضية وتحدثن بحسرة عن غياب مدرب الرياضة الذي تعود تعليمهن "الأيروبيك" موسيقى مع الرقص، وتدريبهن على بعض الحركات التي تساعدهن في المحافظة على نشاطهن البدني، ولياقتهن، وتكون الحصص بمعدل مرتين إلى ثلاث في الأسبوع.
في القاعة نفسها تقريبا، خصص فضاء للمطالعة، يسمى "المكتبة السجنية" حيث جلست بعض السجينات كل في زاويتها، وأمسكن قصصا وكتبا لمطالعتها. ويذكر أنه يمكن للزوار من عائلات السجينات جلب بعض المجلات والقصص التي تطلبها عادة السجينات.
وأوضحت رئيسة مصلحة الرعاية والشؤون العامة والإصلاح، والأخصائية النفسية، هاجر بلحاج، أنهم يقومون بدعوة مملثين لتقديم عروض مسرحية، كما تخصص الإدارة حصصا تثقيفية، وتوعوية للحديث عن بعض الأمراض كسرطان الثدي، وعنق الرحم.
ما لفت انتباهنا خلال زيارتنا لسجن النساء بمنوبة، انتشار اللوحات الفنية، فمنذ الدخول من البوابة الخارجية تلفتك رسوم على طول الجدار، رسوم عن فلسطين، وأخرى تعانق الحرية، إلى جانب مشاهد طبيعية وتدوين أسماء سجينات.
في ختام جولتنا، التقينا مديرة سجن النساء بمنوبة، جميلة صميدة، تقول إن السجن يضم ما بين 350 و400 سجينة، وبينت أنهم بصدد القيام بأشغال جديدة لمزيد تأطير السجينات، ومنها إحداث مركز تجميل، وقاعة رياضية، وملعب لممارسة بعض الأنشطة الرياضية والمباريات. وأوضحت أن 30 سجينة حاليا ينتفعن ببرنامج تعليم الكبار داخل السجن.
ويشار إلى أن الحلويات تباع داخل وخارج السجن، كما أن بعض الخواص من أصحاب محلات بيع المرطبات يطلبون أحيانا من السجينات العمل معهم مباشرة بعد خروجهن من السجن، وتعرض بقية الإنتاجات كالصناعات اليدوية، واللوحات الفنية في معارض ومنتديات تخصص للغرض.
اقرأ أيضا: جزائريّات يرتكبن الجرائم