وتحضر معطيات أخرى مهمة في صلب نظرة فرنسا الاستراتيجية إلى تونس. على سبيل المثال، تبقى فرنسا أول مستثمر أجنبي في هذا البلد العربي، إذ توجد نحو 1300 شركة فرنسية توظف أكثر من 125000 عامل في تونس. ثم إن فرنسا هي البلد الأول في عدد السياح القادمين إلى تونس، بالإضافة إلى كونها أكبر ممول على المستوى الثنائي المباشر، وتشكل تونس عاملاً مهماً في نشر اللغة الفرنسية، كل ذلك من دون اعتبار صادرات فرنسا إلى تونس في كافة القطاعات الحيوية. كل هذه المعطيات جعلت فرنسا تجدد علاقتها بتونس، بعد مرحلة الجفاء التي تلت انطلاقة الثورة التونسية، بسبب دعم حكومة نيكولا ساركوزي في حينها للنظام السابق، واستنفرت حكومة فرانسوا هولاند بعزيمة أكبر لدعم هذه العلاقة.
اقرأ أيضاً: التقارب التونسي-الأميركي...محاصرة زلزال باريس أفريقياً وعدم استفزاز فرنسا والجزائر
وعلى الرغم من رغبة باريس الضمنية في نجاح منافس الرئيس الباجي قائد السبسي، منصف المرزوقي، في الانتخابات الرئاسية الماضية، غير أن ضربتي باردو وباريس جعلت كلاً من هولاند والسبسي في مقدمة المتضامين. وقد شهد شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، محاولة فرنسية لبحث الشراكة الاستراتيجية أمنياً، ووقّع البلدان اتفاقاً عسكرياً لتعزيز التعاون الأمني والاستخباراتي يقوم على أولويتين: تكوين القوات التونسية الخاصة ومدها بالمعدات اللازمة، والتعاون الاستخباراتي الثنائي. بناء على ذلك، قررت باريس رفع الدعم المالي لتونس خلال العامين المقبلين (2016 /2017) إلى 20 مليون يورو، أي أربعة أضعاف الدعم الحالي.
كذلك اتفق الطرفان على المراجعة القانونية للاتفاقية العسكرية الموقعة بين البلدين منذ عام 1973، والتي تنص على إمكانية استعانة تونس بخبراء عسكريين فرنسيين بشكل دائم. تُظهر الرغبة الفرنسية في مراجعة قانونية للاتفاقية سعياً واضحاً لدعم تونس بشكل متواصل بالخبرات الفرنسية واقتراباً أكثر من مصدر المعلومات حول المجموعات المتشددة على الحدود مع الجزائر وليبيا، حيث يعتبر وزير الدفاع الفرنسي جان إيف لو دريان أن الاستخبارات "عَصب الحرب"، وأن "من لديه المعلومات يمكنه السيطرة على كل شيء"، وأن "أمن تونس هو أيضاً أمن فرنسا"، وأن البلدين يربطهما مصير واحد ، خاصة بعد تعرضهما هذا العام لعمليات إرهابية خلفت العديد من الضحايا.
شهد وزيرا دفاع البلدين مناورة بمشاركة عدد من الأمنيين الفرنسيين حول كيفية التعامل مع العمليات الإرهابية، وتحرير الرهائن المحتجزين، بالإضافة إلى اتفاق للاستعانة بفرنسا في تكوين فريق جديد من القوات التونسية الخاصة، إلى جانب القوة الموجودة في بنزرت شمال تونس.
اقرأ أيضاً: تونس ـ واشنطن: شراكة برتبة أطلسيّة
غير أن هذا الدعم الفرنسي لتونس بقي محدوداً جداً مقارنة بالرغبة الأميركية الجديدة الكبيرة التي تجاوزت في فترة قصيرة كل ما قدمته فرنسا طيلة عقود. فالإعانات المباشرة وصلت إلى 750 مليون دولار، وستليها 250 مليوناً أخرى، والمساعدات العسكرية الأميركية في عام 2016 ستصل إلى 99 مليون دولار، وهو ما يمثل أكثر من الضعف مقارنة بالمتوسط السنوي المقدر بـ40 مليار دولار بين عامي 2011 و 2014.
وإذا كانت فرنسا تقدم مساعدات في مستوى التدريب، فإن الأميركيين يوفرون المعدات والتجهيزات الضرورية التي تطالب بها تونس لدعم القوات المسلحة في حرب الجبال.
لم يقتصر الإصرار الأميركي الواضح على هذا المجال، فقد بدأت واشنطن ضرباتها ضد "داعش" داخل ليبيا، وقررت أخيراً أن تعلن بشكل رسمي عن جولات لطائراتها فوق المجالين الجويين التونسي والليبي من خلال طائرات استطلاع متطورة. ويأتي هذا الإعلان الرسمي ليؤكد ما كانت شرعت فيه بالفعل بعد اعتداءات باردو، حيث أشارت تقارير فرنسية إلى أن الولايات المتحدة تعتزم تركيز طائرات من دون طيار في تونس كانت تستخدم خلال تنسيقها مع فرنسا للتصدي لتنظيم القاعدة على مستوى منطقة الساحل الأفريقي، مع إمكانية القيام بضربات جوية في ليبيا.
وكانت تقارير عسكرية أكدت أن طائرة استخبارات أميركية من نوع "كينغ آر350، أ، ر" انطلقت من قاعدتها في إيطاليا (بنتلرييا) بعد ثلاثة أيام من اعتداءات باردو في مارس/ آذار، لتراقب تحركات مجموعات إرهابية من منطقة القصرين، ما مكن الأمن التونسي من الإجهاز على مجموعة من تسعة أفراد قرب قفصة، في عملية تعتبر الأنجح في حربها مع الاٍرهاب. كما أُعلن في تونس رسمياً، خلال زيارة وزير الخارجية جون كيري الأسبوع الماضي، عن عمليات استخباراتية بالطائرات "من دون المساس بالسيادة التونسية"، ومن دون "فرض ما لا تريده تونس".
وفي السياق، ستتسلم تونس في العام المقبل طائرات "بلاك هوك" الأميركية، بعدما وقعت مع فرنسا اتفاقاً سنة 2010 لاقتناء معدات مستعملة، وفضلتها على طائرات "كراكال الفرنسية" التي كانت تنوي فرنسا بيعها لتونس.
لكن تونس، الحليف الاستراتيجي للأميركيين من خارج حلف شمال الأطلسي، العضو في الحلف الدولي ضد "داعش"، تعرف أن "الأقرب هو الدائم الذي يمكن التعويل عليه". لذلك فهي لا ترغب في أن تخسر الجزائر، ولا فرنسا. فضلاً عن ذلك، تدرك القيادة التونسية أنه بإمكانها الاستفادة من الحماسة الفرنسية المستجدة بعد أحداث باريس ومالي، علّ باريس تستمع أكثر إلى صوتها بضرورة الإسراع إلى حل المشكلة الليبية بعزم دولي أكثر وضوحاً، بما أن الأزمة عند الجار الليبي، هي سبب رئيسي في الكوارث بحسب إصرار القيادة التونسية.
اقرأ أيضاً: يوم أميركي في تونس: كسب واشنطن وعدم خسارة الجزائر