ما إن وصلت الأم وطفلتها إلى الحضانة، حتى اتكأت الأخيرة على كتف تيريز شاكر(صاحبة الحضانة). تسأل الأم: ماذا تفعلين لها؟ ابنتها لم تعتد الاستسلام هكذا حتى في حضن والدها. الجواب بسيط. تقول: "أحبّها". ما زالت تؤمن بالحب حتى تحوّلت إلى عملة نادرة. لا ترى هذا تميّزاً، لكنها تملأ الفراغ في زمن لا وقت فيه لأن يجلس طفل في حضن أم أو حاضنة. لا وقت ليمتلئ بالعاطفة.
وهي تجلس على مكتبها، أو تتنقل بين الصفوف لتتأكد من أن كل شيء على ما يرام، تحمل طفلاً/ طفلة لم يعتد المكان الجديد بعد. أحياناً تدندن له/ لها: "نامي نامي يا صغيرة، تا نغفى عالحاصيري. نامي عالعتّيمي، تا تنزاح الغيمي". يهدأ الصغير أو الصغيرة. أما هي، فتنعم بهذا الحب.
لم تبدأ تيريز حياتها العملية في حضانة. هذه المرأة التي أنجبت ثلاثة أولاد، لطالما أرادت المزيد. لم تَخَلْ نفسها جدة تقرأ لهم الحكايات. ماذا تفعل في كم الحب الذي في داخلها؟ الحقّ على والدتها ربما. تدمع عيناها حين تتذكر كم كانت تحب. ورثت عنها المشاعر وأحبت أطفالها وعائلتها. وأحسّت أنها في حاجة لأن تحب المزيد. ثمة أشخاص يأتون إلى هذه الدنيا لهدف ما، وقد عرفت رسالتها قبل نحو عشر سنوات، حين أدارت حضانتها الأولى. لم يكن هذا حلماً بل خاطرة. جل ما أرادته غرفة أو بيتاً يجمعها مع أطفال يبكون ويبحثون عن حضنها. أرادت الحب. كل هذه المشاعر لا تحتاج إلى كتب أو دراسات. هذه طبيعةٌ رفضت إهمالها.
في حضانتها، أبت أن يكون الطفل مجرد رقم. يضايقها أن العاطفة تفرغ من قلوب الناس. هذا واقع ربما، لكن خارج بيت أطفالها. تقول: "نعلّم الأطفال التواصل مع بعضهم البعض. كأنهم في منزل جدتهم". والجدة تعني الشعور بالأمان. ولأنه لا كاميرا في بيت الجدة، رفضت أن تكون لديها كاميرات في حضانتها. هل يحتاج حضنها الذي قررت منحه إياهم إلى رقابة؟
تقول تيريز إن الأطفال يردون الجميل. مهلاً. إنه ليس جميلاً بل حباً. إنْ أحبّتهم يحبونها. الفرق أنهم يعلنون ذلك. يعانقونها أم يقولونها ببساطة. وربما يبتسمون أو يسيرون إلى حضنها. حان الوقت لقليل من الدلال. وإن طال بعض الشيء، فإنه لن يضر.
تيريز التي درّست اللغة الفرنسية في ما مضى، وجدت اختلافاً كبيراً بين تجربتَي المدرسة والحضانة. تقول إن الاحتكاك في الأولى كان أقل. "كأنني أؤدي واجباً". أما في الثانية، ترافق الأطفال لحظة بلحظة. هذه تلعب ثم تجوع وتتعثر على الأرض، ثم تنام ومعها دبها الصغير. تقول إن العاطفة قوية جداً، وقد "تحوّل الأطفال إلى جزء من يومياتي".
غيّرتهم وغيّروها. صارت أكثر قدرة على ترجمة عواطفها، هي التي كانت محافظة في طبعها. معهم، تصير الأمور أكثر سلاسة. حتى حركات جسدها باتت مرنة. لا تتردّد في الرقص معهم. في حضانتها، تعود إلى القرون الوسطى، حين كان النبلاء يلجأون إلى المرضعات لإرضاع أطفالهن حفاظاً على أجسادهن. بعدها، صار هناك "الكريش" في فرنسا، وهي المغارة أو الحضانة. جاء الاسم من صورة السيدة العذراء وهي ترضع ابنها.
حضانتها ما زالت أشبه بمغارة دافئة. في أيام البرد القارس، تعدّ "السحلب" للأطفال. يدفئهم هذا الشراب الساخن. وليس أجمل من رؤيتهم يغمسون الكعك في كؤوسهم. تحب أن تصنع الحلويات معهم، وأن يتناول الأطفال بعضاً من السكاكر قبل الانتهاء. هذه تفاصيلهما معاً. تيريز الأم والحاضنة.
حتى اليوم، خرّجت نحو 150 طفلاً. لن تطري على عملها، أو تقول إن أطفالها هم الأفضل. الحضانات الأخرى ربما "خير وبركة". إن تعلّموا أغنية أقل أو أكثر مجرد تفصيل. الأكيد أنها أحبتهم. شعرت بهم وشعروا بها. وهذا يكفي لخلق توازن عاطفي لدى الطفل، يحصّنه طوال حياته.
هذا الشهر يكاد يكون الأصعب بالنسبة لها. تودّع أطفالاً يستعدون للدخول إلى المدرسة، وتستقبل آخرين. المرأة التي تقول للأمهات أن "يضعن أطفالهن في عبّهن مثل الغجر"، كما اعتادت أن تقول لها والدتها، لم يبق الأطفال في "عبّها هي". هم ليسوا أطفالها على أي حال. لكن ذاكرتها وقلبها وفيان لهم.
يكفي أن يمرّ أحد الأطفال بالقرب من الحضانة، ويصرخ "تيريز.. تيريز". لا تريد سعادة أكبر من هذه. الشتاء على الأبواب. هذا العام أيضاً، لن تنسى أن تعد لأطفالها الجدد السحلب. هم ليسوا عبئاً. وحين تنظر إلى عينَي طفل من أطفالها، وتعرف أنه في حاجة إليها، ستحمله بين ذراعيها، وتغنّي له: "نامي نامي يا صغيرة، تا نغفى عالحاصيري. نامي عالعتيمي، تا تنزاح الغيمي". لا يهمها أن يغفو. ها هو يشعر بالأمان الآن ويعرف أنها تحبّه.
اقرأ أيضاً: حضانات لبنان.. الترخيص أيضاً لا يمنع الإهمال