في مقالة نشرتها له صحيفة "نيويورك تايمز"، أمس الخميس، قدم وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، جردة بما اعتبرها "إنجازات دبلوماسية وزارته خلال 2017"، معبراً عن "افتخاره" بها.
وما يستوقف الانتباه في جردة تيلرسون ثلاثة أمور: أنها بدت منقطعة الصلة بالواقع. ثانياً كونها تمثل انعطافة باتجاه العودة للانضباط تحت سقف البيت الأبيض والتسليم بدوره الرئيسي في صياغة السياسة الخارجية. وثالثاً أن الوزير توسل الإعلان عن هذا التوجه عبر وسيلة إعلام وليس عبر مؤتمر صحافي كما جرت العادة في مثل هذه المناسبة.
لماذا اختار تيلرسون هذا الاختيار؟ هل لتحسين رصيده لدى البيت الأبيض وبعث بعض الدفء في العلاقة الباردة بينهما معه وبما يبعد عنه خيار الإقالة أو الاستقالة، كما يتردد ويتسرب منذ فترة ؟
يدّعي تيلرسون أن دبلوماسيته حققت إنجازات، شملت سائر الملفات والجبهات، من دحر "داعش" الإرهابي في سورية والعراق، إلى الأزمة الكورية الشمالية، مروراً بإيران، وانتهاء بأفغانستان.
واللافت في هذا الزعم أنه يصدر عن وزير لطالما كان يشار إليه بأنه "غائب ومغيّب". في الساحات التي تحرك فيها، مثل كوريا الشمالية وأزمة الخليج، تعمّد البيت الأبيض عرقلة جهوده، بل إحراجه بإظهاره وكأنه لا ينطق باسم الإدارة أو أنه لا يملك حرية التصرف والبت في الأمور. وفي الساحات الأخرى، جرى استبعاده عن عمد، فلم يكن له حضور في الوضع العراقي ولا السوري ولا الأفغاني الذي جرى وضعه بعهدة البنتاغون. كما كان دائم الغياب عن الملف الفلسطيني الذي جرى حصره بصهر الرئيس ومستشاره، جاريد كوشنر، والسفير الأميركي في إسرائيل، دافيد فريدمان.
وبذلك ليس واضحاً عما يتحدث الوزير عندما يعرب عن "اعتزازه" بإنجازاته الدبلوماسية، إلا إذا كان يقصد بذلك تدبيج الثناء لنهج البيت الأبيض الذي تولى صياغة المواقف في هذه القضايا (والثناء مهم جداً مثل الولاء عند الرئيس) أكثر مما يعرض قائمة بإنجازات مزعومة.
يقول في ما يتعلق بالأزمة الكورية الشمالية، مثلاً، إن الرئيس ترامب سارع منذ توليه الرئاسة إلى "التخلي عن سياسة الصبر الاستراتيجي الفاشلة". لكن المعروف أن الوزير نفسه كان قد أصرّ، منذ البداية، على الخيار الدبلوماسي والعبور إليه من خلال الورقة الصينية، كما قاوم خطّ الرئيس الذي نهى وزيره عن التعويل على هذا الخيار و"عدم إضاعة وقته" فيه، كما قال في واحدة من تغريداته التي تعمدها أثناء وجود الوزير تيلرسون في بكين في مهمة دبلوماسية خاصة بالأزمة الكورية، مما أثار الاستغراب في حينه، وأثار خيبة وامتعاض الوزير.
ليس ذلك فحسب، بل واصل البيت الأبيض تعامله مع الأزمة بلغة التهديد والتدمير، وبما يخرّب جهود تيلرسون، ومع ذلك يشيد الوزير في مقالته باعتماد الإدارة "على الضغط" بدلاً من الصبر، بهدف "دفع كوريا إلى الموافقة على عقد مفاوضات جادة للتخلي عن برنامجها النووي، لكن مع تقديم تنازلات قبل الجلوس على الطاولة".
وتناسى الوزير بأنه دعا إلى مفاوضات "غير مشروطة"، على الأقل في "الجلسة الأولى" مع بيونغ يانغ. كما يبدو أنه تراجع عن قناعته بأن مطالبة كوريا الشمالية بـ"التخلي" الكلي عن المشروع الذي استثمرت فيه طويلاً "غير معقولة"، لكنه، أمس، عاد إلى تبني "التخلي التام" الذي يصرّ عليه الرئيس ترامب، لإعادة تموضعه الجديد واحتضانه لما يرتئيه ترامب الذي نعته مرة بتعبير قاس أثار النقمة ضده وقد لا ينساه الرئيس.
ولم يقتصر التفاف الوزير على الملف الكوري، بل شمل النووي الإيراني وأزمة الخليج، كما الملف الفسطيني، وخاصة موضوع القدس. وفيها كلها كان تجديد تموضعه واضحاً. فالنووي مثلاً صار فجأة بمثابة اتفاق "معيب"، وهو التوصيف ذاته الذي تحاشاه الوزير في وقت سابق ودأب الرئيس على استخدامه في حديثه عن النووي.
أزمة الخليج، الذي لم يكن خلافه مع الرئيس بشأنها سراً في واشنطن؛ تجاهلها الآن وبما يشي بأنه ربما تجاوز هذا الخلاف. كذلك الملف الفلسطيني، وبالذات موضوع القدس (مع أنه نهى الرئيس عن الاعتراف بالقدس)، الذي غاب هو الآخر عن جردة الوزير وكأنه بذلك يعترف بتسليمه إلى السفير فريدمان، الذي لعب الدور الرئيسي في الاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل.
ليس ذلك فحسب، بل إن هذا الأخير يبدو أنه يتصرف في الكبيرة والصغيرة ويتجاوز الوزير ووزارته في هذا الملف. فقد تردد مؤخراً أنه طلب من الوزارة "شطب عبارة الاحتلال" من خطابها عند الإشارة إلى الضفة الغربية. وعندما رفضت الخارجية طلبه، أكد على ضرورة رفع الأمر إلى الرئيس للبت به، وكأنه يستقوي بترامب، في حين بقي تيلرسون خارج الموضوع الذي بقي هو الآخر خارج مقالته الصحافية. وبعد قرار القدس، ليس من المستبعد أن يلبي الرئيس طلبه في وقت لاحق. كذلك، بقيت أزمة الخليج، التي ربما تجاهلها الوزير حتى لا يثير حساسيات البيت الأبيض المعروف موقفه إزاءها.
لكل ذلك ربما يكون الوزير قد لجأ إلى عرض إنجازاته في مقالة وليس في مؤتمر صحافي، حتى لا تواجهه الصحافة بأسئلة محرجة عن حقيقة المزاعم وعن التناقضات في المواقف. ففي هذا الزمن، صار الكلام في واشنطن بلا حساب.
في حفلة المديح الجارية مؤخراً، قال السناتور الجمهوري أوران هاتش إن الرئيس ترامب قد يكون "الأعظم على الإطلاق" بين أسلافه. تجاوز في ذلك جورج واشنطن وأبراهام لنكولن وفرانكلين روزفلت، الذين يعتبرهم الأميركيون بمثابة أيقونات الجمهورية التي لم تقم وتبقى بدونهم.
اقــرأ أيضاً
وما يستوقف الانتباه في جردة تيلرسون ثلاثة أمور: أنها بدت منقطعة الصلة بالواقع. ثانياً كونها تمثل انعطافة باتجاه العودة للانضباط تحت سقف البيت الأبيض والتسليم بدوره الرئيسي في صياغة السياسة الخارجية. وثالثاً أن الوزير توسل الإعلان عن هذا التوجه عبر وسيلة إعلام وليس عبر مؤتمر صحافي كما جرت العادة في مثل هذه المناسبة.
لماذا اختار تيلرسون هذا الاختيار؟ هل لتحسين رصيده لدى البيت الأبيض وبعث بعض الدفء في العلاقة الباردة بينهما معه وبما يبعد عنه خيار الإقالة أو الاستقالة، كما يتردد ويتسرب منذ فترة ؟
يدّعي تيلرسون أن دبلوماسيته حققت إنجازات، شملت سائر الملفات والجبهات، من دحر "داعش" الإرهابي في سورية والعراق، إلى الأزمة الكورية الشمالية، مروراً بإيران، وانتهاء بأفغانستان.
واللافت في هذا الزعم أنه يصدر عن وزير لطالما كان يشار إليه بأنه "غائب ومغيّب". في الساحات التي تحرك فيها، مثل كوريا الشمالية وأزمة الخليج، تعمّد البيت الأبيض عرقلة جهوده، بل إحراجه بإظهاره وكأنه لا ينطق باسم الإدارة أو أنه لا يملك حرية التصرف والبت في الأمور. وفي الساحات الأخرى، جرى استبعاده عن عمد، فلم يكن له حضور في الوضع العراقي ولا السوري ولا الأفغاني الذي جرى وضعه بعهدة البنتاغون. كما كان دائم الغياب عن الملف الفلسطيني الذي جرى حصره بصهر الرئيس ومستشاره، جاريد كوشنر، والسفير الأميركي في إسرائيل، دافيد فريدمان.
وبذلك ليس واضحاً عما يتحدث الوزير عندما يعرب عن "اعتزازه" بإنجازاته الدبلوماسية، إلا إذا كان يقصد بذلك تدبيج الثناء لنهج البيت الأبيض الذي تولى صياغة المواقف في هذه القضايا (والثناء مهم جداً مثل الولاء عند الرئيس) أكثر مما يعرض قائمة بإنجازات مزعومة.
يقول في ما يتعلق بالأزمة الكورية الشمالية، مثلاً، إن الرئيس ترامب سارع منذ توليه الرئاسة إلى "التخلي عن سياسة الصبر الاستراتيجي الفاشلة". لكن المعروف أن الوزير نفسه كان قد أصرّ، منذ البداية، على الخيار الدبلوماسي والعبور إليه من خلال الورقة الصينية، كما قاوم خطّ الرئيس الذي نهى وزيره عن التعويل على هذا الخيار و"عدم إضاعة وقته" فيه، كما قال في واحدة من تغريداته التي تعمدها أثناء وجود الوزير تيلرسون في بكين في مهمة دبلوماسية خاصة بالأزمة الكورية، مما أثار الاستغراب في حينه، وأثار خيبة وامتعاض الوزير.
ليس ذلك فحسب، بل واصل البيت الأبيض تعامله مع الأزمة بلغة التهديد والتدمير، وبما يخرّب جهود تيلرسون، ومع ذلك يشيد الوزير في مقالته باعتماد الإدارة "على الضغط" بدلاً من الصبر، بهدف "دفع كوريا إلى الموافقة على عقد مفاوضات جادة للتخلي عن برنامجها النووي، لكن مع تقديم تنازلات قبل الجلوس على الطاولة".
وتناسى الوزير بأنه دعا إلى مفاوضات "غير مشروطة"، على الأقل في "الجلسة الأولى" مع بيونغ يانغ. كما يبدو أنه تراجع عن قناعته بأن مطالبة كوريا الشمالية بـ"التخلي" الكلي عن المشروع الذي استثمرت فيه طويلاً "غير معقولة"، لكنه، أمس، عاد إلى تبني "التخلي التام" الذي يصرّ عليه الرئيس ترامب، لإعادة تموضعه الجديد واحتضانه لما يرتئيه ترامب الذي نعته مرة بتعبير قاس أثار النقمة ضده وقد لا ينساه الرئيس.
ولم يقتصر التفاف الوزير على الملف الكوري، بل شمل النووي الإيراني وأزمة الخليج، كما الملف الفسطيني، وخاصة موضوع القدس. وفيها كلها كان تجديد تموضعه واضحاً. فالنووي مثلاً صار فجأة بمثابة اتفاق "معيب"، وهو التوصيف ذاته الذي تحاشاه الوزير في وقت سابق ودأب الرئيس على استخدامه في حديثه عن النووي.
أزمة الخليج، الذي لم يكن خلافه مع الرئيس بشأنها سراً في واشنطن؛ تجاهلها الآن وبما يشي بأنه ربما تجاوز هذا الخلاف. كذلك الملف الفلسطيني، وبالذات موضوع القدس (مع أنه نهى الرئيس عن الاعتراف بالقدس)، الذي غاب هو الآخر عن جردة الوزير وكأنه بذلك يعترف بتسليمه إلى السفير فريدمان، الذي لعب الدور الرئيسي في الاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل.
ليس ذلك فحسب، بل إن هذا الأخير يبدو أنه يتصرف في الكبيرة والصغيرة ويتجاوز الوزير ووزارته في هذا الملف. فقد تردد مؤخراً أنه طلب من الوزارة "شطب عبارة الاحتلال" من خطابها عند الإشارة إلى الضفة الغربية. وعندما رفضت الخارجية طلبه، أكد على ضرورة رفع الأمر إلى الرئيس للبت به، وكأنه يستقوي بترامب، في حين بقي تيلرسون خارج الموضوع الذي بقي هو الآخر خارج مقالته الصحافية. وبعد قرار القدس، ليس من المستبعد أن يلبي الرئيس طلبه في وقت لاحق. كذلك، بقيت أزمة الخليج، التي ربما تجاهلها الوزير حتى لا يثير حساسيات البيت الأبيض المعروف موقفه إزاءها.
لكل ذلك ربما يكون الوزير قد لجأ إلى عرض إنجازاته في مقالة وليس في مؤتمر صحافي، حتى لا تواجهه الصحافة بأسئلة محرجة عن حقيقة المزاعم وعن التناقضات في المواقف. ففي هذا الزمن، صار الكلام في واشنطن بلا حساب.
في حفلة المديح الجارية مؤخراً، قال السناتور الجمهوري أوران هاتش إن الرئيس ترامب قد يكون "الأعظم على الإطلاق" بين أسلافه. تجاوز في ذلك جورج واشنطن وأبراهام لنكولن وفرانكلين روزفلت، الذين يعتبرهم الأميركيون بمثابة أيقونات الجمهورية التي لم تقم وتبقى بدونهم.