تُجـــــــــــار الدين
من العبارات السياسية الطريفة التى يحتار العقل في تأملها وتفسيرها، عبارة "تجار الدين"، التى صُكت لتُستخدم فى مواجهة الإسلاميين، على اعتبار أنهم لا يخرجون السياسة من عباءة الدين، ولا يقبلون الفصل بينهما، كما يريد العلمانيون، بدعوى أنهم يتاجرون بالدين الذي يريدون له التنزيه عن وحل السياسة، المرتبطة في قاموسهم السياسي بالقذارة، لأنها، بطبيعتها، عندهم لعبة قذرة، ويُحسب تاريخيّاً للرئيس العسكري الراحل، ومؤسس حكم العسكر في مصر، جمال عبد الناصر، أنه كان أول من ردّد تلك العبارة في مواجهة جماعة الإخوان المسلمين.
وقد عادت هذه العبارة مع الانقلاب العسكري الذى يمثل النسخة الثانية من دولة العسكر بعد ثورة يناير التى أنهت وجود النسخة الأولى، وباتت تتردد بصورة بشعة على لسان العامة والبسطاء الذين يخلطون، بطبيعتهم، بين النظرية والتطبيق، كما يخلطون بين المشروع الإسلامي والمنتسبين إليه سياسياً، ويسيرهم الإعلام الانقلابى الذي لا يتورع عن فعل وقول أي شيء يحقق لمن يتحكم فيه، ويرسم سياسته الحاضنة الشعبية التي تضمن له البقاء، أو السلامة على الأقل عند السقوط.
وبغض النظر عن أن مطلقي تلك العبارة ومروجيها، سواء من السلطة العسكرية، أو من المتحالفين معها، والمتسلقين على جدرانها من أصحاب المذاهب والفلسفات السياسية الوضعية، هم أكثر المتاجرين بالدين عندما تكون سوقه السياسية رابحة، وعندما تدعو الحاجة إلى البيع فيه والشراء، ويشهد التاريخ والواقع على ذلك، من مؤسس دولة العسكر الذي اعتلى منبر الأزهر عقب 1956، وتمسح في الحسين بعد هزيمة 1967، إلى أنور السادات، الرئيس المؤمن الذي قالها صراحة "أحكم بالدين، ولا يحكمني الدين"، حتى عندما جنح منفرداً إلى السلام، أو الاستسلام أمام العدو الصهيوني، كان المقرر الإذاعي اليومي، الآية الكريمة "فإن جنحوا للسِلم فاجنح له، وتوكل على الله".
وحتى حسني مبارك، الموظف البيروقراطي، الذي وإن لم يكن في براعة سابقيه في استخدامهم الدين، على الرغم من رفضهم ذلك في مواجهة خصومهم، إلا أن أركان نظام حكمه الممتد كانوا أكثر دراية باستخدام الدين والتجارة فيه، وقد شارك في قتال الطائفة الباغية، نزولاً على قوله تعالى "فإن بغت إحداهما على الأخرى، فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله" في عام 1991، لإخراج العراق من الكويت، وبطبيعة الحال، راجت سوق التجارة بالدين بعد الانقلاب الذي قيل عن حيثيات وقوعه، إن من بينها إقصاء تجار الدين عن الحكم وتنزيهه من استخدامهم له، على حد تعبير أبواق الانقلاب الإعلامية. التي نقلت عن قائده قوله، إنه جاء لحماية الدين مع الوطن، ووصفه بعضهم بأنه المسيح المخلّص الذي لم يمانع من أن يذوب عشقاً فيه من يؤمن بمسيح غيره، ووصفه آخرون بأنه عمر بن الخطاب، وزاد آخر على أنه ووزير داخليته، كموسى وهارون. وأخيراً، ورد إلى أحدهم نص يفيد بأنه محبوب من الله وملائكته والمؤمنين، على الرغم من أن الرجل، قبل القفز إلى كرسي الحكم المغتصب، صرح أنه لا مكان للدين في عهده الراشد!
وبالعودة إلى مضمون تلك العبارة الإقصائية للتيار الإسلامي، بحسب الغرض منها، والتي أتت أكلها في الوسط السياسي الشعبي، لتحقق لغير الإسلاميين سلباً، ما عجزوا عن تحقيقه إيجاباً، بالوصول إليهم بخطابهم النخبوي، نجدها تصطدم مع المنطق والعقل، لأنها تشكل حاجزاً للإسلاميين، يراد منه منعهم من الاستناد إلى الدين مرجعية سياسية، أو التخليّ عن تلك المرجعية من الأساس، والاستسلام لأي مرجعية أخرى على هوى غير التجار بالدين، حتى لا يكون الإسلامي متاجراً بالدين الذي لن يكون، في ذلك الحين، إسلاميّاً حقيقيّاً، إذا ما رفع راية الدين في خطابه السياسي العام، وجاء في التفاصيل، ليقول، على سبيل المثال، قال ماركس، أو قال لينين.
ومن ناحية أخرى، إن كان ذكر الإسلامي الدين فى خطابه السياسي العام متاجرة به، فلماذا لا نعتبر من يرفع راية الوطن في خطابه السياسي، إن كان له خطاب، يتاجر بالوطن كمن يتاجر بالدين، وكذلك الثورة التي يحتكرها بعضهم، ويحتكر الحديث باسمها، وكذلك الذي يهتم بحقوق الفقراء والمساكين، ومشكلات الأقليّات المختلفة، فإن كان الدين كقيمة يحرص بعضهم كما يدعون على تنزيهه من الاستغلال والاستخدام، فيجب أن يحرصوا، أيضاً، على الوطن والثورة والحقوق العامة، كقيمة منزهة عن الاستغلال والاستخدام لأغراض خاصة.