ثلاثية الموت لـ أليخاندرو إيناريتو.. حدث في ذلك الخريف

09 يوليو 2017
(إيناريتو أثناء تصوير أحد أعماله)
+ الخط -

في عام 2015، صعد الممثل الأميركي شون بين إلى خشبة المسرح لتسليم جائزة أوسكار أفضل فيلم. وبعد رؤيته أن الجائزة ذهبت لفيلم Birdman، علّق قاصدًا مخرج الفيلم: "من أعطى هذا السافل بطاقة إقامته؟ (في الولايات المتحدة)".

النكتة التي رأى فيها بعضهم بُعدًا عنصريًا، لم تكن إلا تعبيرًا عن دهشة بين بالمخرج الذي حصد عددًا كبيرًا من جوائز الأوسكار خلال السنوات السابقة. لقد كان أليخاندرو غونزاليز إيناريتو (1963) أول مكسيكي يُرشّح لأوسكار أفضل مخرج؛ فألهمت إنجازاته جيًلا جديدًا من أبناء وطنه المكسيك الذي بقي إيناريتو مخلصًا له، ولقضاياه الثقافيّة وأزماته الاقتصاديّة والاجتماعيّة على حد سواء؛ فتناولت أعماله موضوعي الهجرة والعنف اللذين طالما عانى منهما بلده، إضافة إلى عزلته عن بقيّة أطراف العالم.

حمل إيناريتو شعار "السينما للجميع" بعد أن أراد لها بعضهم أن تكون موجّهة لنخبة هوليوود فقط. تركت تجربته الشخصيّة في الحياة؛ أسفاره ورحلاته المتعددة منذ الصغر، آثارًا واضحةً على أعماله؛ فكان صاحب بصمة مميزة ظهرت في معظم أفلامه، وجعلته، إضافة لأسباب أخرى، واحدًا من أبرز أعلام سينما المؤلف، خصوصًا في الثلاثيّة التي يُطلق عليها اسم ثلاثية الموت: Amores Perros (2000)، 21Grams (2003)، Babel (2006)


البنية السردية في ثلاثيته
لم يكن الروي في ثلاثيّة إيناريتو رويًا تقليديًا أبدًا؛ ذلك لتعدُّد الأبطال والقصص ووجهات النظر في كل فيلم منها. في Amores Perros، وهو أول فيلم في الثلاثيّة، تجري الأحداث في مدينة مكسيكو، ما يجعلها تتسم بطابع محلي. لكن طرح الفيلم قضيّة عالميّة تتعلق بالولاء أو عدمه أحيانًا، جعله قادرًا على مخاطبة جمهور عالمي، وأوصله إلى مهرجانات دوليّة، مثل مهرجان كانّ السينمائي.

نشهد في الفيلم ثلاث قصص: قصّة أوكتافيو وسوزانا، ودانيال وفاليريا، وتشيفو ومارو. لكنها لا تتقاطع مع بعضها بعضًا، إلى حد أن المخرج يُقدّم لكل واحدة على حدة عبر كتابة أسماء أبطالها على شريحة سوداء تظهر على الشاشة. إن الحادث المأساوي، هو فقط ما يجمع بين حكايات الفيلم المتفرقة. ويشكّل اللحظة الوحيدة التي تتطابق فيها القصص الثلاث زمنيًا ومكانيًا (وفقًا لبرودويل).

ما يُكسب الفيلم خصوصيته عن بقيّة الأفلام متعددة الأبطال، أنّ مخرجه لم يكن يسعى إلى إيجاد روابط مباشرة أو غير مباشرة بين الشخصيّات. لقد تم تكرار مشهد الحادث مرات عدة. وفي كل مرة كان يجري تقديم معلومات ورسائل جديدة كليًا، عبر تحويل وجهة النظر من شخصيّة إلى أخرى، فنرى الحادث في المرة الأولى عبر عيني أوكتافيو ما يسمح لنا فهم حالته الشعوريّة. أمّا التكرار الأخير للمشهد؛ فكان من زاوية رجل مشرد راقب الحادث. ونرى بعده كيف يعتني هذا الرجل بكلب أوكتافيو المصاب جراء الحادث.

في الفيلم الثاني من ثلاثيّة إيناريتو 21 grams، لا تسير الحبكة وفق تسلسل متتال. ورغم تتعدد القصص والأبطال في الفيلم: بول، وكريستينا، وجاك. إلا أن التقارب بينهم كان عاطفيًا لا منطقيًا. كما أن الأحداث لا تُروى وفق ترتيب زمني واضح، فنرى مَشاهد تعود إلى الماضي وأخرى إلى المستقبل، حتى يبدو شبه مستحيل معرفة الترتيب الزمني الذي جرت به.

أراد كاتب السيناريو عبر استخدامه لهذا الهيكل السردي المعقد محاكاة بساطة الواقع، فحكى لنا قصة فيلمه كما نقول قصص حياتنا اليوميّة: "نحن لا نروي الأحداث بطريقة متتالية، بل نقفز من واحد إلى آخر".

حاول كل من المخرج والكاتب ربط المَشاهد عبر إظهار التباين العاطفي بينها، فوظّفا عنصر الإضاءة لعكس البعد الشعوري، ثم قسّما قصة الفيلم وفقًا لكثافة الضوء؛ مشاهد النهار تعكس الحياة السعيدة والمستقرّة التي سبقت وقوع الحادث، بينما تعكس مشاهد الليل معاناة الشخصيات الثلاث الناتجة عن الحادث. أمّا المَشاهد الواقعة بينهما، فتمثل رحلة الشخصيّات؛ عبورهم عبر الظلام وفقدانهم للأمل إلى حيث الضوء. وهنا نرى قدرتهم على التعافي النفسي، كلّ بطريقته؛ فيعود جاك إلى عائلته. وتسترجع كريستينا، بسبب حملها، قدرتها على الكلام والابتسام مجددًا. كما يضع موت بول حدًا لمعاناته المريرة.

إنها المرة الثانية التي يستخدم فيها إيناريتو حادثًا مأساويًا من أجل جمع شخصياته، لكن هذه المرة بطريقة تختلف كليًا عن الأولى. لقد أراد عبرها أن يؤكد كيف تنعكس عواقب أفعالنا وخياراتنا على حياة الآخرين.

في Babel أيضًا، وهو الفيلم الأخير من هذه الثلاثيّة، تسير الحبكة وفق جدول زمني غير متسلسل، يتعدد فيها الأبطال وقصصهم: سوزان، وريتشارد، وأميليا. تتقاطع قصص الشخصيات الثلاث عبر حادثة إطلاق النار التي ستؤثر على حياة أبطال الفيلم من دون أن يلتقوا فعلًا، فاستخدام إيناريتو تقنية القطع المتداخل في المونتاج مكّنه من ربط القصص رغم وقوعها في بلدان مختلفة: طوكيو، والمكسيك، والمغرب؛ حيث حصلت حادثة إطلاق النار، لكن أثرها يصل إلى أميليا الموجودة في أميركا مع طفلي ريتشارد وسوزان. إن تأخرهما عن العودة، يدفعها إلى المغامرة بأخذ الطفلين معها إلى مدينة مكسيكو حيث يقام عرس ابنها. وفي طريق عودتها، تواجه مشكلة كبيرة على الحدود الأميركيّة. ويصل أثر الحادثة إلى اليابان أيضًا، فتتغير حياة الفتاة البكماء لاعتقادها أن الشرطة تبحث عن والدها لأمر يتعلق بموت والدتها قبل سنة. لكننا نعلم في المشهد الأخير من الفيلم أنّ السلاح المستخدم في الحادثة كان ملكًا لوالدها؛ قدّمه في السابق لصيّاد مغربي يدعى حسّان.




الموضوعات في ثلاثية الموت
ظهرت في أعمال إيناريتو موضوعات محددة ميزتها عن غيرها من أعمال مخرجين آخرين، وأضافت لمبدعها لقب المؤلّف Auteur. في أفلام هذه الثلاثيّة، كان الموت هو الموضوعة الأوحد بينها، لكنه لا ينفي وجود موضوعات أخرى تخصّ كل فيلم وتشكّل نواته الأساسيّة. تناول إيناريتو عبر أعماله كثيرًا من مشاعرنا المعقدة والمرتبطة بحياتنا اليوميّة، حاجاتنا، مخاوفنا، نوبات الحزن وخيبات الأمل التي تعترينا، وخسارتنا المؤلمة لمن نحب. يقول المخرج: "لقد صدَرت كل أفلامي في الخريف، ربما لأنها أكثر ميلانخولية هكذا".

يسكتشف Amores Perros جوانب مختلفة من حياة شخصيّاته بعد وقوع الحدث الرئيسي وقبله أيضًا، فكل شخصيّة كانت لها خطّتها في الوصول إلى حياة مثاليّة. وأثناء سيرها لتحقيق أحلامها وحاجاتها واجهت كثير من التحديات، وتعرضت للخسارة، خيبات الأمل، والخيانة ممن تحب. لذا نرى أن كل شخصية اقتنت كلبًا وارتبطت به ارتباطًا وثيقًا عكس حاجتها للولاء الذي لم تجده في من حولها من البشر.

في 21grams، فيتمحور حول الصراع بين إيديولوجيتين: الفوضى التي تبرر عشوائيّة أحداث الفيلم وقوعها من دون سبب معين. والإيمان، عبر الاعتقاد بإله قوي تجري الأحداث وفق مشيئته فقط. والانصياع لقوته ما دامت تخدم صالح الشخصيات. رغم هذا الجدل، يشعل إيناريتو ضوءًا في نهاية النفق المظلم. وعلى نحو مفاجئ، تنتهي جميع القصص في الفيلم إلى الخلاص.

أما في Babel، يدفع إيناريتو المتلقي إلى التأمل في مفاهيم حديثة إلى حد ما، فيُظهر أثر العولمة السلبي عبر استخدام السلاح الياباني في المغرب؛ إذ يقود المخرج القصة من بلد لآخر واصلًا العالم عبر سلاح قاتل، في الوقت ذاته الذي يكاد ينعدم فيه التواصل الإنساني والعاطفي بين سكان البلدان هذه.

يعطي إيناريتو جمهوره فرصة التماهي مع شخصيات أفلامه، عبر اقترابه جدًا من معاناتها الإنسانية وتركيزه على الجوانب العاطفية المحيطة بها، فيجد المشاهد نفسه لا يتعاطف مع الشخصيات فحسب، بل يمر بما تمر به أيضًا. ومع ذلك، لا يخاطب إيناريتو مشاعر الإنسان فقط، بل يتجه إلى عقله كذلك. ويحثه على إعادة النظر والتفكير في حياته وحياة الناس من حوله.



(ترجمة عن الإنكليزية: لينا الرواس)

المساهمون