عندما صعدت الطفلة الحلبية، رغد محمد جلال، على متن السفينة، التي ستقلّها وعائلتها، من مصر إلى إيطاليا، قالت لوالدها بفرحٍ: "وأخيراً سأشاهد الدلافين". لم يقبل المهرب أن تحمل معها جهاز قياس نسبة السكر في الدم، وبعد يومين على سطح السفينة، فارقت رغد الحياة، نتيجة نوبة سكر، لتُرمى جثتها في البحر، أمام أعين الجميع، بمن فيهم عائلتها. يبكي والدها وهو يتذكر القصة، ويقسم أن الدلافين ظهرت لأول مرة، وكانت تتقافز حول جثة الطفلة المرمية في البحر. انتهى الحلم الأوروبي لرغد باكراً، لتنضم إلى آلاف السوريين ممن انتهى حلمهم باكراً مثلها.
في حوادث كهذه، تتوسع مروحة الاتهام لتشمل المهربين، وقوانين اللجوء، وأهل الضحايا أنفسهم؛ فاصطحاب قصّر وعجائز، مع عدم توافر الحد الأدنى للأمان، يعتبَر استهتاراً بحياتهم.
ويصبح اللوم أكبر (بطبيعة الحال) عند معرفة أن بعض هؤلاء، أتوا من مناطق تصنّف بأنها "آمنة"، أو من خارج سورية، سواء من دول الجوار أو حتى الخليج العربي. ويستثير القادمون من الخليج، خصوصاً، حنق بعض السوريين، حيث يُنظر إليهم كانتهازيين، استغلوا فرصة منح اللجوء لعموم السوريين، فتركوا الرفاهية المفترضة التي ينعمون بها، ونافسوا السوريين الفقراء على فرص اللجوء!.
لا يخلو الأمر بالطبع من حالات فردية لعائلات مدللة تعزز هذا الانطباع، ولكن المسألة أكثر تعقيداً. فملايين السوريين العاملين في الخليج، هم أصحاب أجور ضعيفة بالكاد تكفيهم، ومع انسداد الأفق، وتحت وطأة التهديد بفقدان وظائفهم، وبالتالي إقاماتهم، ومع ما تحمله العودة إلى سورية من مخاطر أمنية، أو إلحاقهم عنوة بالخدمة الإلزامية، ستكون أوروبا لهم كضمان لا يفوّت.
ويُجمع كل من سبق ذكرهم من السوريين، رغم ما بينهم من اختلافات، على أن هذه الفرصة تستحق التضحية، فتكلفة الرحلة، وخاصةً في السنوات الأولى للظاهرة، مع حالات الغرق، وتحديات الحياة الجديدة، لم تثنهم عن خيار الهجرة!
تبدأ المغامرة، وينجو أحدهم من مخاطر الغرق، ويكون شاهداً في الوقت عينه عليها، أو يجرب مع أطفاله البرد القارس ليلاً، ويجوع آخر ويعطش في طريق البر، أو يحشر مع مائة شخص في شاحنة لا تتسع لعشرين، ثم يصل في نهاية الأمر، فهو ناجٍ، ولكنه يحمل عطباً نفسياً، يجعله يعتقدُ بأنّه دفع ثمناً غالياً، مقابل وصوله، وعلى بلد اللجوء أن يُعوِّض عليه!. لكن مع اللحظات الأولى للوصول، يبدأ اللاجىء في التعامل مع الروتين اليومي لحياته الجديدة، وفي اكتشاف ضآلة قصّته الخاصة، بين مجاميع قصص اللاجئين. وسينتبه، أيضاً، إلى أن التراتبية الاجتماعية، ونظام الترقي الاقتصادي، السائد في سورية، يختلف كليّاً عما هو عليه في أوروبا، ففرص الحرفيين، كالحلاق والدّهان، في العمل السريع، هي أكبر بما لا يقاس من حاملي الشهادات العليا، الذين يحتاجون لمعادلة شهاداتهم، والتعوّد على نمط عمل مختلف. كما أن فرصة الطباخ أو النادل بالعمل أكبر بطبيعة الحال من صاحب المطعم، الذي خسر مطعمه، ليبدأ اليوم من الصفر. إتقان اللغة الإنكليزية بطلاقة، يساعد في البداية، ولكن الاعتماد عليها لفترة طويلة كوسيلة تواصل، قد يولّد الكسل في تعلّم لغة البلد الأصلية، بينما يضطر من لا يتقنها إلى التعلم بسرعة أكبر، لتزيد فرصه لاحقاً.. كل هذه العوامل وغيرها مما يتعلق بالقوانين والأعراف المختلفة جذرياً، تصيب الكثيرين بالإحباط، وقد بدأت، ولو بخجل، تدفع ببعضهم إلى سلوك طريق العودة.
اقرأ أيضاً: العروبة ذهابًا وإيابًا
في حوادث كهذه، تتوسع مروحة الاتهام لتشمل المهربين، وقوانين اللجوء، وأهل الضحايا أنفسهم؛ فاصطحاب قصّر وعجائز، مع عدم توافر الحد الأدنى للأمان، يعتبَر استهتاراً بحياتهم.
ويصبح اللوم أكبر (بطبيعة الحال) عند معرفة أن بعض هؤلاء، أتوا من مناطق تصنّف بأنها "آمنة"، أو من خارج سورية، سواء من دول الجوار أو حتى الخليج العربي. ويستثير القادمون من الخليج، خصوصاً، حنق بعض السوريين، حيث يُنظر إليهم كانتهازيين، استغلوا فرصة منح اللجوء لعموم السوريين، فتركوا الرفاهية المفترضة التي ينعمون بها، ونافسوا السوريين الفقراء على فرص اللجوء!.
لا يخلو الأمر بالطبع من حالات فردية لعائلات مدللة تعزز هذا الانطباع، ولكن المسألة أكثر تعقيداً. فملايين السوريين العاملين في الخليج، هم أصحاب أجور ضعيفة بالكاد تكفيهم، ومع انسداد الأفق، وتحت وطأة التهديد بفقدان وظائفهم، وبالتالي إقاماتهم، ومع ما تحمله العودة إلى سورية من مخاطر أمنية، أو إلحاقهم عنوة بالخدمة الإلزامية، ستكون أوروبا لهم كضمان لا يفوّت.
ويُجمع كل من سبق ذكرهم من السوريين، رغم ما بينهم من اختلافات، على أن هذه الفرصة تستحق التضحية، فتكلفة الرحلة، وخاصةً في السنوات الأولى للظاهرة، مع حالات الغرق، وتحديات الحياة الجديدة، لم تثنهم عن خيار الهجرة!
تبدأ المغامرة، وينجو أحدهم من مخاطر الغرق، ويكون شاهداً في الوقت عينه عليها، أو يجرب مع أطفاله البرد القارس ليلاً، ويجوع آخر ويعطش في طريق البر، أو يحشر مع مائة شخص في شاحنة لا تتسع لعشرين، ثم يصل في نهاية الأمر، فهو ناجٍ، ولكنه يحمل عطباً نفسياً، يجعله يعتقدُ بأنّه دفع ثمناً غالياً، مقابل وصوله، وعلى بلد اللجوء أن يُعوِّض عليه!. لكن مع اللحظات الأولى للوصول، يبدأ اللاجىء في التعامل مع الروتين اليومي لحياته الجديدة، وفي اكتشاف ضآلة قصّته الخاصة، بين مجاميع قصص اللاجئين. وسينتبه، أيضاً، إلى أن التراتبية الاجتماعية، ونظام الترقي الاقتصادي، السائد في سورية، يختلف كليّاً عما هو عليه في أوروبا، ففرص الحرفيين، كالحلاق والدّهان، في العمل السريع، هي أكبر بما لا يقاس من حاملي الشهادات العليا، الذين يحتاجون لمعادلة شهاداتهم، والتعوّد على نمط عمل مختلف. كما أن فرصة الطباخ أو النادل بالعمل أكبر بطبيعة الحال من صاحب المطعم، الذي خسر مطعمه، ليبدأ اليوم من الصفر. إتقان اللغة الإنكليزية بطلاقة، يساعد في البداية، ولكن الاعتماد عليها لفترة طويلة كوسيلة تواصل، قد يولّد الكسل في تعلّم لغة البلد الأصلية، بينما يضطر من لا يتقنها إلى التعلم بسرعة أكبر، لتزيد فرصه لاحقاً.. كل هذه العوامل وغيرها مما يتعلق بالقوانين والأعراف المختلفة جذرياً، تصيب الكثيرين بالإحباط، وقد بدأت، ولو بخجل، تدفع ببعضهم إلى سلوك طريق العودة.
اقرأ أيضاً: العروبة ذهابًا وإيابًا