في أربيل، قال سائق الأجرة الذي لا يكاد يُجيد نطق بضع كلمات عربية: "قبل كان عرب يذبح كردي، هسة (الآن) كردي يذبح عرب، الكل يذبح الكل ماكو فرق". ونزلنا أمام الفندق بينما مضى هو يشتم العرب والأكراد الذين يذبحون بعضهم بعضاً.
كلّما دخلنا في نيسان ينشغل العراقيون بالامتعاض المُسبق عما سيقال بعد تسعة أيّام: ستمتلئ الشاشات بجملة "بغداد لم تسقط وإنّما دخلها الساقطون"، أقرأ هذه العبارة في منشورات الامتعاض كل نيسان يمرّ، وأبحث عن قائل يقصدها دون امتعاض فأفشل في العثور عليه.
قبل أربعة عشر عامًا، كان الجندي الواقف قرب المدفع النمساوي المقاوم للطائرات ممتعضًا من سلاحه العاجز عن مواجهة الـ B52 والـ F16 وأخواتها، وكان يائسًا من الحرب وعاجزًا عن التفكير في ما عليه أن يفعل، لم تعد الأوامر ذات أهميّة إن خالفها الجندي، الحرب ستعيد الآمر إلى رجل مدني أو تقتله، وهذا سيحصل خلال أيّام قليلة.
أشعر بضجر وكآبة من الحديث في الأمر، ما زال الحزن يتكرّر عندي في هذا اليوم من كل عام، أترك شاشة الفيسبوك، والتي لو ربحنا الحرب لكانت لا تزال شاشة التلفاز بالكاد ملونّة، وأدخل على موقع تواصل اجتماعي غير فيسبوك، لا يمنع ظهور العورات في منشورات أعضائه وأتفرّج على مئات الإناث العاريات لأشتت أفكاري.
ماذا بعد؟ حاربنا بعضنا بعضًا وحاربنا "داعش"، وبعد عام من الآن لن يبقى داعش ولا أظن أنّنا سنحارب بعضنا بعضاً مرّة أخرى. ثمّة استقرار سيجيء، مصدره الإرهاق والملل، سيضجر المقاتلون كثيرًا، يُمارس الكثير منهم السطو والاختطاف كهواية لا كمهنة، وربّما سنرى في مقاطع الفيديو على مواقع التواصل الكثير من الكلاب والقطط تتعرض للتعذيب.
لنعد مرّة أخرى، ماذا سيحدث بعد مرور أربعة عشر عامًا؟: ثمّة مراهق ولد في التاسع من نيسان/ أبريل عام 2003، يجهل المراهق حتى اللحظة إن كان عيد ميلاده هو الذكرى السنوية للتحرير أم الاحتلال، نصف أصدقائه يضعون صورة لبغداد تقصف ليلًا، ليذكّروا بالهمجية الأميركية، ونصفهم يضعون صور جورج دبليو بوش مبتسمًا، كإشارة تقدير وشكر لتحريره بلادهم من حكم الطاغية صدام.
يسأل المراهق أهله، لماذا حاربتنا أميركا، يختلف والداه بعرض الإجابة، يتجادلان ويغضبان من بعضهما، تنصرف أمّه لطبخ الغداء ويذهب أبوه لمشاهدة مباراة تنس على قناة فضائية مشفّرة.
يقول المراهق:
ثمّة خراب كثير، دم الأخ الذي قتله أخوه، ودم الجندي الذي قاتل ضدّ قاتليه (بعضهم من إخوته أيضًا)، مات الجنود، ومات القتلة، وبقي الخراب، يقولون إن إعمارًا ما سيجرى، إن البنايات التي هدمها داعش ستُستبدل بأخرى ذات زجاج مظلل وحواف هندسية حداثاوية، إن الإخوة الذين قتلوا إخوتهم سيموتون بتقدّم السن وسينسى أولادهم ذلك، لكن رائحة للخراب ستبقى، وفي كل تاسع من نيسان ستزكم أنفي.
وكان ثمّة خراب كثير، جوع وقهر، يأس يمشي على قدمين هائلتين في كل شارع وزقاق، يأس يلبس البدلة الخضراء الغامقة، ويُربّي شاربين كثّين، ويهدد بعينيه السابلة من اليائسين مثله، لا تزال قصّته تروى، ويخلط رعبه وقساوته بحنين غامض إليه، حتى من كارهيه الذين يبالغون في شتمه.
ستمرّ ثلاثون سنة أخرى، سأزعج أبنائي بأزمة منتصف العمر لديَّ المبنية على الشكّ والقلق والحاجة القديمة، ستكون ذاكرتي مشوشّة جدًا وحين تمرّ صورة من الحرب مصادفة في مكان ما، سأرتبك إثرها، وسيقول أبنائي: ماذا حدث في ذلك الوقت؟ سأخبرهم: ثمّة خراب كثير حينها، الخراب الكثير لا يزال هنا، كل ما في الأمر أنكّم لا تستطيعون رؤيته.
أشعل سيجارة وأتناسى المراهق ذا الأربعة عشر عامًا الآن، وأعيد قراءة مقطع من قصيدة لسركون بولص:
ستذكر الأخاديد
على كل شاشة بذيئة في الغرب
عندما تُبقر مدن الطفولة، والجسور عندما تتدلّى
كأضلاع رب قتيل فوق دجلة والفرات.