شاهدنا خلال مراحل طفولتنا المختلفة عددًا ليس بالقليل من الرسوم المتحرّكة وأفلام الكرتون، التي نرى فيها ذلك العالِم ذا الشعر الأبيض الأشعث والذي لا يمل يبحث والتجريب، ليصرخ بعدها بصوتٍ عالٍ مبتهج "لقد نجحت، لقد فعلتها".
ولكن لم نصادف بالطبع في صفوفنا الدراسية سوى العلماء المتّزينين البعيدين كل البعد عن ذلك الجنون في مسلسلات الأطفال التي شاهدناها سابقًا، حتى التقيت بصديقٍ قديم لي روى لي قصّةً عن عالم "مجنون" كما سمعها من أستاذه في كلية العلوم. أُعجبت أيما إعجاب في القصّة، بل فرحت بها فرح من وجد بئر ماء عذب بعد أن تاهَ في عرض الصحراء، فهذا تمامًا النمط الذي أحببت أن يكون العلماء عليه وليس ذلك النمط المضجر الذي تعرّفت عليه في المدرسة.
تبحّرت أكثر في القصّة ووجدت أنّ هذا العالم ليس هو العالم الوحيد الذي قام بأشياء على درجةٍ من الغرابة لينعتهم البعض بالعلماء المجانين.
شاهد طبيب استرالي يدعى باري مارشال مرضى القرحة الهضمية يعانون الأمرين من آلامٍ تدفعهم لاستئصال المعدة إلى نزيفٍ يودي بحياتهم. بدأ العمل مع روبين وارين الذين كان عالم أمراض حينها في مشفى بيرث الملكي، والذي اكتشف وجود جراثيم ذات شكل لولبي تدعى "اللولبية الشاحبة" في الآفة الموجودة في الجهاز الهضمي لدى الكثير من المرضى. كان العلاج واضحًا جدًا بالنسبة للطبيب الاسترالي، كانت صادات حيوية متوفّرة تستطيع القضاء عليها. لكن، للأسف، لم يكن ذلك الأمر مقبولًا من قبل جميع أطباء الهضمية الذين كانوا يعتقدون أنّ سبب القرحة هو الشدّة النفسية.
لم يتمكّن الطبيب من إثبات تجربته على فئران المخبر، وبالطبع كان ممنوعًا من التجريب على البشر. لكنّه لم ييأس بالطبع، وقام بالتجريب على الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يجري تجربته عليه؛ قام بالتجريب على نفسه. قام مارشال بابتلاع البكتريا المأخوذة من معدّة مريض، وبعد عدة أيام تطوّر لديه التهاب معوي الذي يسبق القرحة عادةً. طلب من زميله أن يحلّل خزعة من معدته ليجد بالطبع تلك الجراثيم اللولبية.
أخذ بعدها الصادات الحيوية المناسبة ليشفى بعد أيّامٍ من مرضه، واستطاع بذلك مارشال أن يثبت للعالم بأسره أنّ وجهة نظره صحيحة بتلك الحركة "المجنونة" ليحصل على جائزة نوبل لاكتشافه ولو بعد حين.
تنصّ قواعد جائزة نوبل على أنّه من غير الممكن منح جائزة نوبل لأشخاصٍ بعد موتهم، لكنّ لكل قاعدةٍ استثناء دائمًا. لكن لا يعادل هذا الاستثناء ما قام به رالف ستاينمان، ولا نتحدّث عن اكتشافه لنوع جديد من الخلايا المناعية وحسب، بل عن ردة فعله عندما علم أمر إصابته بسرطان البنكرياس. تكهّن الأطباء بأنّه لن يعيش مع هذا المرض العضال أكثر من سنة، لكنّه في أعماقه كان مقتنعًا بقدرته على تعديل سير المرض ولو بشكلٍ طفيف، إن لم يكن من أجله فمن أجل الأجيال اللاحقة.
بدأ تجربة طبيّة جديدة كان بطلها جسمه، وحصل على بعض المساعدة من زملائه الذين رغبوا في مساعدته كنوعٍ من المساندة المعنوية لحالته. قام بتلقيح نفسه بأكثر من 3 لقاحات مختلفة بناءً على تجاربه، كما أخذ حوالى 8 جرعات علاجية تجريبية من أبحاثه.
توفي ستاينمان في النهاية بسبب مرضه العضال، لكنّه لم يرقد بسلام قبل أن يثبت صحّة أبحاثه. استطاع ستاينمان أن يعيش أكثر من أربع سنوات ونصف، أكبر بكثير مما توقّع له الأطباء حينها.
يُعتبر القلب من أكثر الأعضاء النبيلة التي خشي العالم بأجمعه في السابق المساس به. ولم تسمح التكنولوجيا في القرون الماضية من تنفيذ العمليات على القلب، لكننا نستطيع اليوم أن نقوم بمختلف العمليات حتى أننا نستطيع إدخال قناة مباشرةً إلى القلب عبر أحد الشرايين لننقذ بها حياة المرضى. طُرحت فكرة إدخال قناة ما في الشرايين لتصل إلى القلب أو لإعطاء دواء ما بسرعة من قبل الطبيب فيرنر فورسمان، وفي الحقيقة، كان الوحيد المؤمن بهذه النظرية.
اعتقد جميع الأطباء في بدايات القرن العشرين أنّ عمليةً مثل تلك ستكون مميتةً حتمًا، لكنّ ذلك لم يمنعه من إثبات وجهة نظره. استطاع فورسمان مع مساعدة صغيرة من زميله في المشفى أن يدخل قثطرة صغيرة في وريده المرفقي ودفعه باتجاه قلبه، انطلق بعدها مسرعًا إلى غرفة الأشعة غير مكترثٍ بالأنبوب الذي أدخله في يده ليقنع طبيب الأشعة هناك أن يحقن له مادة ظليلة تستخدم في التصوير الشعاعي داخل القثطرة. ثم أُخذَت صورة تظهر حافة القثطرة في قلبه وتحديدًا في الأذينة اليمنى. نجح الطبيب فورسمان بعد هذه الخطوة المجنونة بتجربته دون أن تودي به إلى الموت لكنّه لسوء الحظ تعرّض للفصل من عمله ورُفض عمله أيضًا لعدّة عقودٍ لاحقة ليحصل على جائزة نوبل في عام 1956.
قد تكون لوحدك في فكرتك، قد لا ترى عيناك سواها، ولا يقتنع دماغك بغيرها، قد تكون مصيبًا أو مخطئًا. لكن تأكّد من أنّك قادر دائمًا على الإبداع والابتكار، واعمل على ذلك فما يستحق الثناء يستحق العناء دائمًا.