يُسلّم الاحتلال الإسرائيلي بشكل متقطّع، وضمن شروط، أعداداً متزايدة من جثامين الشهداء الفلسطينيين، المحتجزة منذ بداية أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وهي تصل للعائلات متجمّدة وعلى شكل قوالب من الجليد، تثير الشكوك والريبة، في حين تعكس عملية التسليم الأزمة الداخلية الفلسطينية، لناحية عدم التوصّل لقرار حول تشريح الجثامين وإعداد ملف جنائي ضد الاحتلال.
وقد انقسمت عائلات الشهداء المحتجزة جثامينهم، ما بين موافق على شروط الاحتلال في عدم التشريح والدفن ليلاً، في مقابل تسلّم الجثمان ودفنه، لتبريد نار غضبهم وتكريم شهيدهم بدفنه، وما بين رافض للشروط، حتى لو أدى الأمر لعدم تسلّم جثمان الشهيد/ة. كما ينقسم التدخل الرسمي الفلسطيني ما بين لامبال أو خجول، وبين جهات رسمية تتوسط ما بين الاحتلال الإسرائيلي وعائلات الشهداء لتوصيل شروط الاحتلال. الأمر الذي تنظر إليه بعض المؤسسات الحقوقية الفلسطينية، على أنه استفراد بعائلات الشهداء لتمرير الشروط الإسرائيلية عبر جهات فلسطينية، ليتملّص الاحتلال من العقاب.
وكان حجم الغضب والاحباط الذي عبّر عنه أهالي الشهداء لافتاً في اجتماعهم، يوم الأربعاء، مع أعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني، وأكد العشرات منهم أن "المستوى الرسمي الفلسطيني بكل هيئاته قد تجاهلهم، ولم يطرق أبوابهم أي مسؤول فلسطيني ليسألهم عن وضعهم، وكيفية مواجهة أزمة احتجاز جثامين أولادهم".
وحسب الأهالي فإن ما فجّر حالة الغضب بعد 85 يوماً على احتجاز جثمان أول شهيد، وهو ثائر أبو غزالة، في الثامن من أكتوبر/تشرين الأول، هو وصول جثمان الشهيد نسيم صلاح من مدينة نابلس بجسد متقوّس. ما استحال دفنه ضمن الشروط الإسرائيلية ليلاً، وتطلّب الأمر الإبقاء عليه لليوم التالي، ليعود الجثمان إلى وضعٍ شبه طبيعي على الأقل، لناحية تمديد أرجل الشهيد المثنية تمهيداً لدفنه.
ويقول سعد صلاح، شقيق الشهيد نسيم لـ"العربي الجديد"، إن "العائلة تفاجأت بشكل كبير بعدما تسلمت جثمان ابنها". ويوضح أنه "كان الجثمان كقالب ثلجي متجمّد وليس بالإمكان تحريكه بشكل طبيعي وسهل. كما أن ساقي الشهيد كانتا مرفوعتين للأعلى بدرجة 60 سنتيمتراً عن الأرض. ولم يستطع الأطباء والمختصون تعديل الجثمان لتشييعه مساء الثلاثاء، ما دفعهم لتأجيل التشييع لليوم التالي".
اقرأ أيضاً جرائم الاحتلال في 2015: إعدام ميداني وهدم منازل واعتقالات
ويتابع صلاح: "أعتقد أن الاحتلال قام برمي الجثمان بطريقة وحشية من دون وضعه بشكل سليم داخل الثلاجات، ما أدى إلى بقاء رجليه مرفوعتين". ويشير إلى أنه "ظهر، بعد استلام الجثمان، الكثير من الكدمات والضربات على ظهره وكامل أنحاء جسده بالإضافة للكسور. وهو مذكور في تقارير طبية لدى الأطباء، الذين قاموا بإجراء معاينة لجثمان الشهيد".
"ولم يتمكن الأطباء في المستشفى من إجراء تشريح طبي للشهيد، نظراً لحالة التجمّد العالية للجثمان، إذ يتطلب الجثمان أربعة أو خمسة أيام ليتخلص من حالة التجمّد وليتمكن الأطباء من إجراء التشريح، إلا أن الاحتلال اشترط تشييع الجثمان بأسرع وقت، ووضع الشهداء في الثلاجات ليصلوا إلى حالة التجمّد، ربما يكون بشكل مقصود، حتى لا يتمكن الأطباء من تشريح الجثمان". كما يقول شقيق الشهيد.
وتصاعدت الاحتجاجات، في ظلّ توجيه أصابع الاتهام إلى السلطة الفلسطينية، بمستوياتها المختلفة، من الشؤون المدنية التي يقوم ضباطها بتوصيل شروط الاحتلال شفهياً إلى أهالي الشهداء، حسبما أكدت أكثر من عائلة، وصولاً إلى النيابة العامة، التي طاولتها الاتهامات بالتقاعس عن التشريح.
وحول عدم تشريح جميع الجثامين المحتجزة التي تم تسلّمها حتى الآن، يجيب العالول: "هناك من تم تشريحه وجزء لم يتم بسبب رفض الأهالي من جهة، وبسبب عراقيل الاحتلال من جهة أخرى، الذي يقوم بتجميد الجثامين إلى درجة 35 تحت الصفر. الأمر الذي يعوق التشريح بسبب حالة التجمّد التي تصل بها الجثامين". ويعمل حالياً الطب العدلي على إبطال تبريد الجثامين بصورة بطيئة، فيصل الجثمان إلى درجة صفر أو أربع تحت الصفر، ما يسمح بتشريحه بشكل طبي سليم.
وفي السياق ذاته، كانت أصابع الإحتجاج تدلّ إلى الشؤون المدنية، التي قام بعض ضباطها بالتواصل المباشر مع أهالي الشهداء لتوصيل شروط الاحتلال بالدفن ليلاً ومنع التشريح، ما أثار انتقادات حادة من المؤسسات الحقوقية للشؤون المدنية ودورها في هذه القضية.
في هذا السياق، يقول مدير مؤسسة الحق شعوان جبارين لـ"العربي الجديد"، إن "الشؤون المدنية لم تُدر القضية بشكل صحيح، من خلال التعاطي مع شروط الاحتلال ونقل هذه الشروط لعائلات الشهداء والضغط عليها، ما جعلهم يخطئون في الاتجاه، وهو ما يدلل على عدم وجود تنسيق بين المؤسسات الفلسطينية".
ويُشدّد على أنه "في حال تم دفن الجثامين من دون إجراء عمليات تشريح، فإننا نسهم في دفن أدلتنا، وفي إدانة الاحتلال كجزء من قضيتنا في هذا الجانب". لكنه يلفت إلى الوثيقة التي وقع عليها أهالي الشهداء، الأربعاء، التي تطالب السلطة الفلسطينية برفض شروط الاحتلال والاستجابة لها بما يتعلق بتسليم الجثامين".
لكن المحامية الحيفاوية نائلة عطية، حمّلت بشدة على طريقة إدارة أزمة جثامين هبة الغضب، وتقول إن "الشؤون المدنية تُبلّغ أهالي الشهداء بوجود شروط للاحتلال، فببساطة لماذا لا تطلب الشؤون المدنية الشروط مكتوبة من الاحتلال؟ هذه أكبر فضيحة لإسرائيل ولن تتورّط فيها بكتب رسمية، لماذا نساعدهم في التملّص من هذه الفضيحة"؟
وتُطالب عطية في "أن يكون هناك غرفة عمليات لإدارة هذه الأزمة بشكل علمي وقانوني ومنهجي، لأن احتكار هذا الملف من بعض الجهات ستكون نتيجته الدمار". وتتساءل: "هل هناك أي جهة فلسطينية تقوم بالتوثيق والشهادات وإعداد ملف قانوني محكم؟ الجواب لا".
وترى عطية أنه "هناك أهمية كبرى لإحضار أطباء تشريح دوليين، كطرف ثالث، والذهاب إلى مكان احتجاز الجثامين والمطالبة بها، ومعرفة كيفية تجميدها وظروف هذا التجميد، بعد أن بدا واضحاً من خلال جثامين العديد من الشهداء، أن الثلاجات التي يضع الاحتلال فيها الجثامين، غير مخصصة لهذا الأمر، ويتم وضعها بصورة عشوائية مهينة".
ووفقاً للإعلامية سماح نصار من "الحملة الشعبية لاسترداد جثامين الشهداء"، فإن "الاحتلال يحتجز 47 جثماناً منذ الثالث من أكتوبر الماضي بينهم تسعة أطفال، وأنثى وهي الطفلة أشرقت قطناني". وكان والد قطناني قد رفض الشروط الإسرائيلية التي عُرضت عليه قبل أيام، بشكل مطلق، شكلاً ومضموناً، في حديث سابق مع "العربي الجديد".
اقرأ أيضاً: الاحتلال يسلم جثامين 9 شهداء فلسطينيين من القدس والضفة