جحافل العاطلين عن العمل
لم يعد الأمرُ مجرّد فقْد وظيفة، أو مصدر رزق، أو عملٍ يمكن استبداله بآخر. إنه أشبه بتنفيذ حكمٍ بالإعدام، أو الانحدار إلى قاعٍ يزداد عمقًا، مع ابتلاع مياهٍ آسنةٍ والاختناق على درجات، فالاستطلاعات تشير إلى تزايد مخيف لأعداد العاطلين عن العمل في لبنان، منذ ثورة 17 تشرين وتفشّي وباء كورونا، بل إن "الدولية للمعلومات" قدّرت أن يبلغ العددُ، في الأشهر المقبلة، نحو مليون شخص، أي ما يوازي نسبة 65%.
الأسبوع الماضي، عرف اللبنانيون يوما أسود بالفعل، عندما تمّ صرف 850 موظفا من مستشفى الجامعة الأميركية التي تعدّ من أمتن المؤسسات وأثراها في لبنان. جميعهم موظّفون صغار وممرّضون وممرّضات يقبضون معاشاتهم بليرة لبنانية بالكاد تكفيهم، فيما الكبار يقبضون رواتب تبلغ آلاف الدولارات. تمّ التضحية بهؤلاء، بعد استدعاء عدد كبير من القوى الأمنية إلى حرم الجامعة، استباقا لوقوع أية مشكلات إثر تبليغهم قرار الصَّرف. ولم تقع مشكلات. خرج المصروفون كالموتى، بنظراتٍ تائهة، ووجوه مطبقة، وأصوات مخنوقة. كثرٌ منهم بكوا وتعانقوا بصمت، فيما انتحب آخرون، قائلين إنهم اعتقدوا أنفسهم مستورين في المؤسسة، وإنهم الآن لا يدرون ماذا يفعلون. الأكثرية تألّمت كمن فقد عزيزًا، حياةً، إذ أدركت أنها متّجهة إلى حيث لا إعالة ولا خبز ولا أمان.
اليوم، في ظل الأزمة الاقتصادية والمالية، يفقد اللبناني وجودَه، هويّتَه، كيانَه عندما يفقد عمله. يفرغ ويصير خفيفًا كريشةٍ في مهبّ الريح. هذه ليست استعارة، إنه إحساسٌ واقعيّ. يصير كيسا ورقيا مرميّا، تتقاذفه الأرجلُ ويعبث به الهواء. ليس ثمّة من يحمي اللبنانيّ اليوم من أتون العوز الماضي قضما في البلاد، بشراهةٍ وفجور، سوى وظيفة "تستره" وتبقيه على هيئة آدميّ. إثر حدوث "المجزرة" كما وصفها كثيرون، تساءلت نقيبة الممرّضين والممرّضات: "إذا كانت مستشفى كـ"الأميركية"، وهي الرائدة بين المؤسسات، تطرد موظّفيها بهذه الظروف، فماذا ننتظر من المستشفيات الأخرى"؟ ومعناه أن الآتي أعظم، وأن مستشفياتٍ أخرى، وسواها من المؤسسات، مقبلة على قرارات مماثلة. "عندما كانوا يجنون الملايين لم نكن نشاركهم أرباحهم، فلماذا علينا دفع ثمن فشل القيادات والإدارات؟"، أضافت.
أجل، لماذا؟ يسأل اللبناني ولا ينتظر الجواب، فلا المحاسبة من عادات نظامه، ولا المساءلة، ولا الاقتصاص. خمسٌ وأربعون عاما ولم يحاسَب أيٌّ منهم، ولم يتمّ الانقلاب عليهم أو طردهم أو مطاردتهم، بل رضخ الكلُّ لهم مخفضي الرؤوس مسلمي الرقاب. 15 عاما من السُّود العجاف، 150 ألف قتيل، مخطوفون وجرحى ومشوّهون بعشرات الآلاف، ونحن لا نني نختار قاتلينا وطغاتنا وسارقينا من بينهم، فيما هم يتمادون ويستبيحون ويتعنّتون. اليوم، وقد فرغت الجيوبُ، وفرغت البراداتُ، وعمرت القلوبُ بالخوف والمرارة، نتساءل: لمَ بقاؤهم وما الذي يمكنهم تقاسمه بعد؟ لماذا لا يرحلون، ولم يتبقّ في البلاد إلا الطاعون، طوابيرُ متعاظمة من العاطلين عن العمل، وجحافلُ مخيفة من الجوعى والمتسوّلين، مع أعداد لا تُحصى من طالبي الهجرة واللجوء.
تهاجرون؟ يسألوننا مستنكرين. وهل البلاد فندق أو مكان للسياحة والتجوال؟ عليكم أن تبقوا هنا، بلا أكلٍ وشربٍ ومدخول، وأن تُظهروا أنكم أهلٌ للمقاومة والصمود، وإلا طعنّا في أصالتكم، وشكّكنا في وطنيّتكم، وحوّلناكم خونةً وعملاء. ثمّة من قال إن المصروفين من الجامعة الأميركية شيعة فقط، وإنه قرار ترامب، على الرغم من صرف 30 مليون دولار لدعم الجامعة الأميركية في لبنان، ساخرا من مناصري أميركا ومهاجمي إيران. وثمّة من أجاب، بمن فيهم الجامعة، أن المصروفين من جميع الطوائف. هاهاها، مضحك أمرُنا، يا إخوان، إذ كيف تُفهم متخَمًا ما معنى الجوع، وكيف تشرح لثريٍّ ما معنى العوز، وكيف تُري المكابرَ المتباهي ما هو الذلّ؟ سبق أن صرّح رئيس الجامعة الأميركية في بيروت، فضلو خوري، أنها أسوأ حكومة مرّت بلبنان، في حين لفت كثر نظرَه إلى "كونه أسوأ إدارة" لمؤسسةٍ ثريةٍ ومقتدرةٍ قرّرت أن تغطي سوء إدارتها بالتضحية بالعنصر الضعيف، في ظل أزمة اقتصادية خانقة لم يسبق لها مثيل.
لقد طردتَ، يا سيادة الرئيس، 850 موظفا، أي 850 عائلة أو 5100 فرد حدا أدنى، إذا ما احتسبنا أن متوسّط عدد العائلة ستة أفراد. هؤلاء سيبيتون لياليهم من الآن، بفضلك، على خواء وهزال، وربما أقدموا، بفضلك أيضا، مثل بعض مواطنيهم، على الانتحار.