31 أكتوبر 2024
جدل السلطوية وحركات الاحتجاج في المغرب
جولة أخرى تخسرها السلطوية في المغرب، بعد التداعيات التي خلّفتها حادثة مقتل بائع السمك، محسن فكري، داخل شاحنة نفايات في مدينة الحسيمة، احتجاجا على مصادرة الشرطة بضاعته غير المرخّصة. ولا مبالغة في القول إن حجم المظاهرات العارمة التي اندلعت في أكثر من مدينة لم يفاجئ فقط السلطة والطبقة السياسية، بمختلف أطيافها، بل أعاد إلى الواجهة، بشكلٍ لا يخلو من دلالة، إشكالية علاقة الدولة بالمجتمع في المغرب، لا سيما فيما يتعلق بتبدياتها اليومية، حيث تكاد تختفي الحدود بين الواقع والقانون.
كشفت المظاهرات عن تطورٍ نوعي لافت في أداء الحركات الاحتجاجية، خصوصاً في قدرتها على بناء رأي عام أكثر حيويةً، من خلال الاستفادة مما يقدمه الإعلام الجديد من إمكانات غير مسبوقةٍ في تداول الخبر والصورة، وما يواكب ذلك من أشكالٍ مختلفة في التعبئة والتحشيد. كما كشفت، في المقابل، عن انتهازية النخب السياسية التي فضّلت النأي بنفسها عن الخوض في الحدث، والانزواء بعيداً لترقّب ما ستسفر عنه مشاورات تشكيل الحكومة الجديدة التي كُلف عبد الإله بن كيران بتشكيلها. أبانت حادثة الحسيمة كيف أصبحت هذه النخب تكتفي بما ترسمه لها السلطة من أدوار ومساحات، ما يؤكد عجزها عن القيام بدورها المفترض في التوسّط الفعال والمنتج بين الدولة والمجتمع، بسبب شلليتها التنظيمية والاجتماعية، وخياراتها المؤسساتية القائمة على الاندماج الكامل في هياكل السلطة وأجهزتها، من دون أدنى حسٍّ سياسي نقدي يوجهها، وحصر علاقتها بالمجتمع في اللحظة الانتخابية، وما يرتبط بها من صراعٍ على مواقع السلطة والنفوذ. ولذلك، ربما لم يستغرب كثيرون نعت نائبة برلمانية، عن أحد أحزاب السلطة، المتظاهرين والمحتجين على قتل محسن فكري بالأوباش، وهي التسمية التي كان قد وصف بها الملك الراحل الحسن الثاني، في خطابٍ شهير له، سكان منطقة الشمال، عقب أحداث يناير/كانون الثاني الدامية عام 1984، ما يدلّ على غياب الحد الأدنى من الوعي السياسي والاجتماعي والأخلاقي والتاريخي لدى قطاع واسع من هذه النخب.
من هنا، لا تؤشر واقعة الحسيمة فقط إلى إفلاس الأحزاب والمركزيات النقابية الكبرى،
وإخفاقها في مسايرة المتغيرات المجتمعية والثقافية الحاصلة، بل تؤشر كذلك إلى قدرة الحركات الاحتجاجية على التمدّد الهادئ داخل النسيج الاجتماعي والأهلي، وتحولها إلى حركةٍ مدنيةٍ مغربيةٍ واسعة، متعدّدة ومتنوعة المشارب والروافد، وقادرة على ابتداع أساليب تنظيمية مغايرة تنبني على السلمية، ونبذ العنف، وتجنب الاصطفافات العرقية، ما يعني أن هناك أفقاً سياسياً يقودها ويوجهها على المدى البعيد، وهو ما يبدو أن السلطة تدركه وتعيه جيداً، فعلى الرغم من أهمية الإصلاحات الدستورية التي عرفها المغرب، قبل حوالي ستة أعوام، على خلفية الحراك الشعبي العربي، والتي قادت قطاعاً من الإسلام السياسي المعتدل إلى رئاسة الحكومة، في محيط إقليمي يغلب عليه الاضطراب وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، على الرغم من ذلك، لم تمسّ هذه الإصلاحات النواة الصلبة والعميقة للسلطة التي ظلت في معزلٍ عن أي تغيير جوهري، يؤثر على صلاحياتها الواسعة، بسبب ثقافتها السياسية التقليدية، وطبيعة تحالفاتها الاجتماعية، واستنادها إلى مشروعيةٍ سياسيةٍ تقليدية، لا تستوعب الحداثة السياسية، إلا باعتبارها مورداً يرسخ التقليد.
تشكل مثل هذه الوقائع، بالنسبة لهذه الحركات، مناسبةً ليس فقط للتعبير عن تطلعاتها المشروعة نحو دولةٍ يحكمها الحق والقانون، بل أيضاً لطرح رؤيتها لعلاقة الدولة بالمجتمع، باعتبارها مشكلةً مركبةً يشتبك فيها السياسي والاجتماعي والثقافي والحقوقي، وتجد تمظهرها الأبرز في التجاوزات المتواترة، وغير المقبولة، لسلطةٍ ما زالت تصر على تجاهل ما تنص عليه
مقتضيات الدستور الجديد، بشأن ربط المسؤولية بالمحاسبة، واعتماد مبادئ الحكامة الجيدة. بهذا المعنى، تمثل هذه الحركات، بأفقها السياسي والاجتماعي السلمي، تحدّياً دالاً بالنسبة للفاعلين التقليديين داخل الحقل السياسي، بسبب تجاوزها أنماط الاحتجاج المعروفة، وإسهامها في نقل مركز الثقل في الفعل الاحتجاجي من المدن والمراكز الحضرية الكبرى، ذات الرمزية السياسية والنقابية التاريخية، إلى ما يعرف بـ''المغرب غير النافع'' المتطلع إلى رفع الحيف الاجتماعي والاقتصادي عنه، وأخذ حقه في الكرامة والعدالة الاجتماعية.
ليست هناك تجربة تحول ديمقراطي ناجحة في العالم لم تخضع أجهزة الدولة الحيوية ومؤسساتها (الأمن والإدارة والقضاء خصوصاً) لإصلاحٍ عميق، يستوعب رهانات هذا التحول وإكراهاته، ولا سيما فيما له صلة بتفكيك الأسس التي تنهض عليها السلطوية، بمختلف امتداداتها الأمنية والسياسية، والانحياز الكامل لخيار الديمقراطية المسنودة باحترام كامل للحقوق والحريات.
كشفت المظاهرات عن تطورٍ نوعي لافت في أداء الحركات الاحتجاجية، خصوصاً في قدرتها على بناء رأي عام أكثر حيويةً، من خلال الاستفادة مما يقدمه الإعلام الجديد من إمكانات غير مسبوقةٍ في تداول الخبر والصورة، وما يواكب ذلك من أشكالٍ مختلفة في التعبئة والتحشيد. كما كشفت، في المقابل، عن انتهازية النخب السياسية التي فضّلت النأي بنفسها عن الخوض في الحدث، والانزواء بعيداً لترقّب ما ستسفر عنه مشاورات تشكيل الحكومة الجديدة التي كُلف عبد الإله بن كيران بتشكيلها. أبانت حادثة الحسيمة كيف أصبحت هذه النخب تكتفي بما ترسمه لها السلطة من أدوار ومساحات، ما يؤكد عجزها عن القيام بدورها المفترض في التوسّط الفعال والمنتج بين الدولة والمجتمع، بسبب شلليتها التنظيمية والاجتماعية، وخياراتها المؤسساتية القائمة على الاندماج الكامل في هياكل السلطة وأجهزتها، من دون أدنى حسٍّ سياسي نقدي يوجهها، وحصر علاقتها بالمجتمع في اللحظة الانتخابية، وما يرتبط بها من صراعٍ على مواقع السلطة والنفوذ. ولذلك، ربما لم يستغرب كثيرون نعت نائبة برلمانية، عن أحد أحزاب السلطة، المتظاهرين والمحتجين على قتل محسن فكري بالأوباش، وهي التسمية التي كان قد وصف بها الملك الراحل الحسن الثاني، في خطابٍ شهير له، سكان منطقة الشمال، عقب أحداث يناير/كانون الثاني الدامية عام 1984، ما يدلّ على غياب الحد الأدنى من الوعي السياسي والاجتماعي والأخلاقي والتاريخي لدى قطاع واسع من هذه النخب.
من هنا، لا تؤشر واقعة الحسيمة فقط إلى إفلاس الأحزاب والمركزيات النقابية الكبرى،
تشكل مثل هذه الوقائع، بالنسبة لهذه الحركات، مناسبةً ليس فقط للتعبير عن تطلعاتها المشروعة نحو دولةٍ يحكمها الحق والقانون، بل أيضاً لطرح رؤيتها لعلاقة الدولة بالمجتمع، باعتبارها مشكلةً مركبةً يشتبك فيها السياسي والاجتماعي والثقافي والحقوقي، وتجد تمظهرها الأبرز في التجاوزات المتواترة، وغير المقبولة، لسلطةٍ ما زالت تصر على تجاهل ما تنص عليه
ليست هناك تجربة تحول ديمقراطي ناجحة في العالم لم تخضع أجهزة الدولة الحيوية ومؤسساتها (الأمن والإدارة والقضاء خصوصاً) لإصلاحٍ عميق، يستوعب رهانات هذا التحول وإكراهاته، ولا سيما فيما له صلة بتفكيك الأسس التي تنهض عليها السلطوية، بمختلف امتداداتها الأمنية والسياسية، والانحياز الكامل لخيار الديمقراطية المسنودة باحترام كامل للحقوق والحريات.