جدول الضرب.. وجدول الماء

30 ديسمبر 2018

(نصير السماوة)

+ الخط -
منذ أزل القصيدة، كانت المعركة بين التاجر والشاعر محسومة النتائج لصالح التاجر، غير أني غالبًا ما أركب رأسي، وأراهن على فوز الشاعر.
بدأ ذلك منذ أول جدول ماء رأيته في طفولتي. كنت أجهل منبعه، لكني رأيت مصبّه في خزان روحي، ثم ما لبث أن بدأ الصراع سريعًا بعد سنواتٍ طفيفة، حين حاول أستاذ الرياضيات أن يعلمني "جدول الضرب"، فلم يفلح بزجّ أرقامه في رأسي الذي استوطنه "جدول الماء"، ووجدتني أتبرّم بالأرقام كلها.
مثلت تلك الحادثة بداية الدفاع الذاتي عن الحلم، من دون قصدٍ مني، على غرار الدفاعات الآلية التي تتبعها كريات الدم البيضاء، حالما يتسلل إلى الجسد فيروسٌ دخيل، كما مثّلت الحادثة إياها أول دفاع عن الحلم في مواجهة الرقم، ثم عن القصيدة في مواجهة الوظيفة، وعن الشاعر في مواجهة التاجر، وعن الحرية في مواجهة استرقاق العصر الجديد.
وعلى الرغم من أنني كنت أشاهد بأمّ عيني خسارة حصوني، واحدًا تلو الآخر، في متوالية الصراعات تلك، غير أنني بقيت متشبّثًا بوهم النصر حتى النهاية.
والأنكى أن الشاعر، وهو يلهث محمومًا خلف حلمه، يفوتُه الاطلاع على تجارب حالمين آخرين، انسحبوا من أحلامهم، باكرًا، حين استشعروا، منذ البداية، حتمية الهزيمة، وفي أحسن الأحوال، اخترعوا وصفةً كريهةً للمزاوجة بين الشعر والتجارة، وأسهموا، من حيث يعلمون أو لا يعلمون، في انتصار التاجر، أو المستبدّ، أو حتى الواقع على الحلم، على غرار ما فعل المتنبي، حين كرّس شعره في مديح الملوك أو هجائهم.
ربما كان عليّ، مثلًا، وأنا أنتشي بشعر البريطاني لورد بايرون، أن أقرأ عن حياته، كيف انسحب من الشعر، في أوج عطائه، وليصبح تاجر عبيدٍ يسافر إلى أفريقيا، لسوقهم كقطعان الخراف من هناك، على الرغم من شعره الرومانسي العميق، ومن زعمه مؤازرة حرية الشعوب.
أيضًا، كان عليّ أن أتخلى عن حمل رسالة "المدينة الفاضلة"، من يد أفلاطون الذي أرادها مدينةً يحكمها الفلاسفة والحكماء؛ لأن مدينته كانت تحمل بذور فنائها في أحشائها؛ وفاتني أن أفلاطون، نفسه، كان نصيرًا للرقّ، وكان يرى في العبيد وجيوش الموظفين منزوعي الحلم، ضرورةً لحمل أعباء الحياة وإدارة عجلتها، وهو ما أيده فيه أرسطو، كذلك، فهل خدعني هذان الفيلسوفان الحالمان، أيضًا؟
وكان ينبغي أن أتمعّن في نصّ للزميل الراحل، محمد طمليه، حين اكتشف خديعته برواية زوربا التي غيرت مجرى حياته، كلها، وقادته إلى رحلة العبث، فقرّر أن ينتقم من كاتبها اليوناني كازنتراكي، بزيارة ضريحه، وعلْف الديدان التي التهمت جثته، إكرامًا لانتقامها له.
وكان يتعيّن أن أسمّي الأشياء بأسمائها، فالقهوة لا يمكن أن تكون ذات خداع شعري "المحبوبة السمراء"، كما زعم أحد الشعراء، ولا يمكن أن تكون الشفتان "عنّابًا"، ولا الأسنان حبّات "برد"، ولا الدموع "لؤلؤًا"، كما ادّعى يزيد بن معاوية، بل كان الأدعى أن أحفظ عدد الأسنان، كما يفعل التاجر، وأن أرى بقايا الملح التي تخلّفها الدموع على الوجنتين، وأن أمسح رذاذ اللعاب المتطاير من شفاه "العنّاب".. بهذا، فقط، أعيد إلى الحياة وجهها الحقيقي، الصارم، الجاف، المستبدّ.
كم كنت أخشى الوصول إلى مرحلة الاعتذار من الذات عن الذات؛ لأنه أشقّ الاعتذارات وأقساها، غير أنني أجد نفسي، الآن، وقد سقطت قصائدي عليّ، ملزمًا لعمري كله، بهذا الاعتذار، بعد أن بدّدتُ سنواته في لهاث خلف السدى.
من الآن فصاعدًا، قرّرت أن أقود انقلابًا عليّ، وسيكون أول ما أفعله أن أعود باحثًا عن ذلك الجدول الأول في حياتي، الذي دمغ الحلم على جبيني، لأتاكّد، أنه كان جدول ضربٍ، لا أكثر، فلا بأس أن يعيد المرء تأهيل نفسه على حقائق وبدهيات تجاهلها، وغافلها بالقفز من حلم إلى آخر، حتى وإن لم يبق من سنواته الكثير.
لكن اللعنة.. أقسم إنه جدول ماء لا ضرب.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.