جدّتي والانتخابات

31 مايو 2016

في مركز اقتراع للانتخابات اللبنانية في بيروت (8 مايو/2016/أ.ف.ب)

+ الخط -

في موعد الانتخابات، كانت سيلانة، جدّتي لأبي، تجلس في فراشها بعد الإدلاء بصوتها، إذ لم تكن تحتمل الضغط الذي يسبّبه لها الانتظار. وكلما ازدادت الأخبار سوءاً عن تراجع حظ مرشّحها المفضّل في كسب الانتخابات، أو عن محاشرةٍ تضعه في موضعٍ متذبذب غير أكيد، تشتدّ تمارضاً ووهناً، إلى أن يصل أبي، القادم خصيصاً من العاصمة، ليدلي بصوته، وليكون حاضراً مع جماعته في دعم مرشّح العائلة الكبيرة. كانت، حينها، ترفع بالكاد رأسها لتقبـّله، وتسأله هامسةً شاحبة: "شو يا إمي؟"، فيجيبها ضاحكاً مطَمئناً، إن "الشبل" لا يهاب النباح، وهو كان يعني بالشبل آنذاك مرشّحهم للنيابة قبلان شبل عيسى الخوري.

كانت جدتي، ما أن تسمع ذلك، حتى تخلع عنها تمارضَها، كمن بُعثت فيه الحياة، فتنفرج أساريرُها، ويشتدّ عودُها، وتدعو لابنها – جالب الأخبار الطيبة – بطول العمر والتوفيق، ذاك أنه أراح قلبها، وطمأنها إلى أن زعيمها المحبوب سيُبقي عائلتها زعيمةً على بقية العائلات.

لا أذكر أن الحماسة كانت تُعمي أبي، أو أنه كان يتوتّر فوق العادة، كما كانت حال أقربائه وأصدقائه. أذكر أنه كان يقوم بواجبه مواطناً يمارس حقه في الانتخاب، وأنه، مع ذلك، كان يُبقي على مسافةٍ تتيح له فتح نافذةٍ صغيرةٍ، ينفذ منها إلى رأيٍ معتدلٍ يُبقيه على مسافةٍ آمنةٍ من التشدّد والعصبية العمياء. حتى طنّوس، جدّي، لم يكن لينحاز إلى زعيمٍ، دونما سبب حقيقي للانحياز. هكذا كانوا يروون عنه، بل حتى أنهم أخبرونا كيف أنه وقف في وجه "البيك" ذات يوم، رافضاً أن يدلي بشهادته ضد فلاح جاره، أرادوا الاستيلاء على جزء من أراضيه.

على العكس من ذلك، كانت جدتي سيلانة، ومن ثم أمّي التي كانت، بحكمتها المعهودة، تنتخب زعيم عائلة أبي بكل حماس، علانيةً، مضيفةً اسم زعيم عائلتها الذي ليس من عائلتنا، سرّاً، ما كان يضحك أبي، ويجعله متآمراً معها، حافظاً وحامياً لسريرتها.

حين توفيت جدتي، أخذت عنها عمتي نبيهة، كبيرة إخوتها وأخواتها، ذلك الدور، فكانت، بتصميم أشدّ، وافتضاح أكبر لمشاعرها الكارهة والمُحبّة، الشامتة والمزهوّة، تدخل في المعركة، هي التي كانت تملك حانوتاً يؤهلها لسبر المزاج العام، ولوضع تقديراتها وتوقعاتها، مراهنةً على أنها لم "تخرم" أبداً إلى الآن، في حين كان زوجها بطرس أكثر "تهذيباً" منها ودرايةً في ضبط مشاعره، هو الذي يتحدّث لغاتٍ أجنبيةً بفعل عمله مع الأجانب في منطقة الأرز التي كانت، في فترة الستنيات، تضجّ بالسيّاح العرب والأجانب.

هكذا، كانت تبدو نساء العائلة أكثر انخراطاً وتورّطاً في الشأن السياسيّ الذي لم يكن ليأخذ الكثير من وقتهن، أو يشغل بالهن، أكثر من اللزوم، طالما أنه لم يكن ليحدث، إلا كل أربع سنوات، ليعود من بعدها، فيكبو بانتظار دورات مقبلة.

اشتعلت الحرب، ودخل لبنان في ما دخل فيه، بعد آخر انتخابات نيابية "طبيعية" أجريت في العام 1972. كان يوم أحدٍ على ما أذكر، وكنا في طريقنا إلى بيروت، بعد أن ودّعنا جدتي وعمومتي والأقارب. كان المساء قد باشر هبوطه على القرى المرشوشة على جانبي الطريق، المحفوفة من كل جهةٍ بالجبال والوديان، وكان المذياع قد بدأ يبثّ نتائج المحافظات الخمس. لم يكن قد أتى بعدُ دورُ نتائج محافظة الشمال. سألت أمي أبي: "ما رأيك؟"، فقال بوجهٍ متجهّمٍ لم نعتده منه: "مخطرة. صار في كتير خيانة وغدر"، ثم عاد إلى صمته والطريق.

كنت، وأنا ممدّدة على اللوح المجاور للزجاج الخلفي بقامتي الصغيرة، أنظر إلى أعالي الأشجار التي نعبرها على حوافي الطريق، ثم إلى أعمدة الكهرباء، ثم إلى نجومٍ تلتمع في السماء، ثم إلى لا شيء، وقد بدأ جفناي يثقلان، فيما أرقام صناديق الاقتراع وأسماء قرى لبنان وبلداتها تتوالى على المذياع. 

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"