07 نوفمبر 2024
جذرية الثورات ومسألة البرنامج والقيادة
ترفع الثورات، وبدءاً من السودان إلى الجزائر وانتهاءً بالعراق ولبنان، شعارات واضحة، وتطالب برحيل الأنظمة بكل رموزها. تتمثل شعاراتها في رفض الفساد والنهب ومحاسبة المسؤولين ورفض الطائفية والسيادة الوطنية. وإذا كانت موازين القوى والجيش السوداني فرضت على الثورة السودانية الوصول إلى تسوية سياسية، تحقق بعض مطالب الثورة، وتجنب البلد أنهاراً جديدة من الدماء كما حصل في مجزرة القيادة العامة هناك، فإن النظام الجزائري يحاول جاهداً الالتفاف على قضايا الثورة، ويضحّي بشخصياتٍ من صلبه تباعاً، ولكن ذلك لم يُنجه بعد، وما زال الشعب مصرّاً على ثورته، وإحداث تغيير كبير في بنية النظام وتوجهاته والطبقات المستفيدة منه. ما زالت الثورات في كل من لبنان والعراق تتجذر، وتؤكد يومياً أنها ماضية في طريق إسقاط الأنظمة؛ ليس الطريق سهلاً أمام ثورات العراق ولبنان، وهي تتحدّى أنظمةً تدّعي أنها ليست مستبدة، وأنها نقيض الاستبداد، وتمثل طبيعة المجتمعات، وفيها قدرٌ من الحريات، ولكن حقيقتها أنها أنظمة ناهبة وفاسدة ومبدّدة للثروات. وبالتالي تحاول تلك الأنظمة إيجاد التباساتٍ أمام الثورات، وحدوداً لها، وأن القضية يجب ألا تتجاوز طيران بعض الرؤوس، وينتهي الأمر وتخمد الثورات.
تفيد تطورات الوضع اللبناني والعراق بأن الأمر أكبر من حكومةٍ تطير أو تتشكل بديلاً عنها ومن الطاقم نفسه، وإذا يحاول حزب الله وحركة أمل تحييد كتلة كبيرة من الشيعة، وكذلك تتحيد بلدات
عراقية، خشية ًمن تهمة الدعشنة، فإن الثورات لم تتراجع، بل وتتوسع أيضا، ونجد يومياً أشكالا من الاحتجاج الرمزي في تلك المناطق، وتقدم نفسها امتدادا للثورات، وليس بقطيعة معها. وصلت رسالة الثورات إلى كل العراقيين أو اللبنانيين، أن الثورة تمثل كلية الشعب، وتأخر بلدات ومناطق عن الالتحاق بها لا يغير من موقفها، ولا من طبيعتها الوطنية العامة. قوة الثورات في كل من لبنان والعراق في أنها شعبية وسلمية، وتحصل في بلاد مراقبة جيداً من العالم، وهي نتاج أزمات معيشية واجتماعية حادّة، وتمس أغلبية المجتمع، ولا إمكانية لحلها من خلال الأنظمة الحالية؛ إن وعود سعد الحريري في لبنان قبل أن يستقيل، وكذلك وعود عادل عبد المهدي في العراق، وهو الذي سيستقيل بالضرورة، لم ترضِ الثورات ولا استطاعت أن تشق الصفوف وتربك المحتجين. تتعلم الثورات أن الأكاذيب الطائفية والوعود السخيّة هي لتمرير الوقت، وهدفها إخماد الثورات وإخراج الناس من الشوارع.
حدث ويحدث ارتباك في طبيعة الثورات العربية، حيث لم تتقدّم ببرامج واضحة لما بعد إسقاط الأنظمة، ولم تنتخب قياداتٍ معبرة عنها، وهذا أفسح المجال للمعارضات التاريخية للثورات، لمصادرتها أو تمكّنت الثورات المضادة منها، واستطاعت الأنظمة القديمة الاجهاز عليها، وكذلك افتعلت بعض الأنظمة حروباً أهلية وطائفية دامية، كما حدث في كل من اليمن وسورية وليبيا، وهذا حدث في 2011؛ وتطوّر الأمر إلى تدخلٍ إقليمي ودولي كبير، وأدّى إلى ما تسمى تغيرات كبيرة في المنطقة بأكملها. ما يحصل في كل من العراق ولبنان يعاني من تدخلات إقليمية كبيرة، وإنْ لم ينزلق نحو حربٍ أهلية جديدة. ويوضح هذا الوضع طبيعة الأنظمة كأنظمة مافيوية، وتفتقد أي مرجعية وطنية أو أخلاقية، وأنها قابلة لرهن نفسها بغية البقاء أو الهروب، وهناك القتل كما بحالتي معمر القذافي وعلي عبدالله صالح.
تتطور الأمور، في الجزائر ولبنان والعراق، يومياً، وهناك إصرار كبير على ضرورة التغيير، وإذا كان هذا في غاية الأهمية، وهناك تضحياتٌ كبرى يقدّمها الثوار والشعوب في هذه البلدان، فإن أوضاعها تفترض ضرورة صياغة برامج وطنيةٍ عامة وفزر قيادات لتمثيل الثورة، ومنع مصادرتها أو الالتفاف عليها. في هذه النقطة، المسألة معقدة، ولا يكفي القول إن الثورة تسقط الأنظمة، وليس من مهامها تحديد ملامح السلطة البديلة؛ هذا منطق عبثي، وإنْ كان يحمل طوباوية عظيمة. لنلاحظ كيف أن النظام التونسي ما بعد 2011، وعلى الرغم من مرور ثماني سنوات لم يستطع تجاوز الأزمة الاجتماعية والاقتصادية، وهناك أزمة سياسية أدّت، في انتخابات 2019 أخيرا إلى حدوث فضيحة، وهي ترشّح شخصية تطاولها شبهات فساد! في مصر، يتعاظم الافقار يتعاظم والاستبداد يتجذّر، وهذا من مؤديات فشل الثورات.
المقصد من الإتيان على ذلك كله أنه لم يعد يكفي التغني بالثورة وبأشكالها العظيمة، وهي كذلك من غناء ودبكات وتجمعات وموسيقى ومشاركة كبيرة للنساء وتضامن المدن والدول كما يجري
بين لبنان والعراق حاليا؛ ذلك كله لا يكفي، فهناك ثورات عظيمة وملايين الناس في الشوارع، وإذا كانت يجمعهم الشعور بمعاداة الأنظمة وحماسة الشارع، فإنها تنتظر رؤية واضحة للمستقبل، رؤية توضح ما هو الاقتصاد القادر على إنهاء الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وأي شكل من أشكال الحكم سيتم تبنيه، وما علاقة الأديان والطوائف بالدستور والقوانين والأحزاب السياسية وسواه؛ في لبنان والعراق ترفع شعارات واضحة، وأن "أجمل الفصول، فصل الدين عن الدولة"، فكيف سيتم التعبير الحقوقي والسياسي عنه!.
ما جاء أعلاه، وفي حال تأخر حدوثه، سيسبب مشكلة كبيرة في صفوف الثوار، والسؤال، وفي حال استطالة زمن الثورات، سيكون: ما هو الشكل التنظيمي والسياسي الذي يجمع بينهم، ومن يمثلهم، وما هي مطالبهم الحقيقية. يطرح بعضهم ضرورة تنظيم أشكال أوليّة "تنسيقيات" للقرى والأحياء والبلدات والمدن. وأخيراً تتشكل منها قيادة وطنية، وهذا صحيح، ولكن ما هو البرنامج السياسي والرؤية النظرية الذي ستستقي منها تلك الأشكال نشاطاتها وتنظيم نفسها وشؤون الناس وسواه؟ أسئلتنا هذه، بقصد الحفاظ على أصل الثورات كما هو، أي كثورات شعبية، وسلمية، والحفاظ على نزاهتها، ورفض عسكرتها، أو تمويلها، وكذلك رفض كل شكل للتطييف فيها.
يكرّر محلّلون كثيرون أن الموجة الثانية من الثورات (الجزائر، السودان، لبنان، العراق) عَزلت، بشكل نهائي، الإسلام السياسي وأشكال التطييف، ولم تطرح من أصله قضية علاقة الدين بالسياسة، ويبدو أن غياب الطائفية السياسية عن الثورات، ووجودها في الحكم "العراق لبنان" قد سهَلَ مهمة الناس في التحشيد للثورات وعدم ركوب الطائفية السياسية عليها، حيث الثورات ضدها وهي السلطة؛ الثورات سببها الإفقار والفساد والنهب، وتلك الطائفية اغتنت بسبب ذلك. وبالتالي، صار للثورات هدفين كبيرين: رفض كل شكل للحكم غير العلماني الديموقراطي، ورفض كل شكل للاقتصاد يسمح بالفساد والنهب والتوزيع غير العادل للثروة وضرورة إنصاف الكتلة الكبرى من المفقرين. وبالتالي ومجدّداً أي شكل للحكم سيحقّق هذين الهدفين؛ إن رؤية تعثر تونس اقتصادياً واجتماعياً بالتحديد، وهي البلد الذي يقال إن الثورة نجحت فيها، يساهم في ضرورة إيلاء أسئلتنا أعلاه الضرورة القصوى من المحللين والباحثين والثوار.
حدث ويحدث ارتباك في طبيعة الثورات العربية، حيث لم تتقدّم ببرامج واضحة لما بعد إسقاط الأنظمة، ولم تنتخب قياداتٍ معبرة عنها، وهذا أفسح المجال للمعارضات التاريخية للثورات، لمصادرتها أو تمكّنت الثورات المضادة منها، واستطاعت الأنظمة القديمة الاجهاز عليها، وكذلك افتعلت بعض الأنظمة حروباً أهلية وطائفية دامية، كما حدث في كل من اليمن وسورية وليبيا، وهذا حدث في 2011؛ وتطوّر الأمر إلى تدخلٍ إقليمي ودولي كبير، وأدّى إلى ما تسمى تغيرات كبيرة في المنطقة بأكملها. ما يحصل في كل من العراق ولبنان يعاني من تدخلات إقليمية كبيرة، وإنْ لم ينزلق نحو حربٍ أهلية جديدة. ويوضح هذا الوضع طبيعة الأنظمة كأنظمة مافيوية، وتفتقد أي مرجعية وطنية أو أخلاقية، وأنها قابلة لرهن نفسها بغية البقاء أو الهروب، وهناك القتل كما بحالتي معمر القذافي وعلي عبدالله صالح.
تتطور الأمور، في الجزائر ولبنان والعراق، يومياً، وهناك إصرار كبير على ضرورة التغيير، وإذا كان هذا في غاية الأهمية، وهناك تضحياتٌ كبرى يقدّمها الثوار والشعوب في هذه البلدان، فإن أوضاعها تفترض ضرورة صياغة برامج وطنيةٍ عامة وفزر قيادات لتمثيل الثورة، ومنع مصادرتها أو الالتفاف عليها. في هذه النقطة، المسألة معقدة، ولا يكفي القول إن الثورة تسقط الأنظمة، وليس من مهامها تحديد ملامح السلطة البديلة؛ هذا منطق عبثي، وإنْ كان يحمل طوباوية عظيمة. لنلاحظ كيف أن النظام التونسي ما بعد 2011، وعلى الرغم من مرور ثماني سنوات لم يستطع تجاوز الأزمة الاجتماعية والاقتصادية، وهناك أزمة سياسية أدّت، في انتخابات 2019 أخيرا إلى حدوث فضيحة، وهي ترشّح شخصية تطاولها شبهات فساد! في مصر، يتعاظم الافقار يتعاظم والاستبداد يتجذّر، وهذا من مؤديات فشل الثورات.
المقصد من الإتيان على ذلك كله أنه لم يعد يكفي التغني بالثورة وبأشكالها العظيمة، وهي كذلك من غناء ودبكات وتجمعات وموسيقى ومشاركة كبيرة للنساء وتضامن المدن والدول كما يجري
ما جاء أعلاه، وفي حال تأخر حدوثه، سيسبب مشكلة كبيرة في صفوف الثوار، والسؤال، وفي حال استطالة زمن الثورات، سيكون: ما هو الشكل التنظيمي والسياسي الذي يجمع بينهم، ومن يمثلهم، وما هي مطالبهم الحقيقية. يطرح بعضهم ضرورة تنظيم أشكال أوليّة "تنسيقيات" للقرى والأحياء والبلدات والمدن. وأخيراً تتشكل منها قيادة وطنية، وهذا صحيح، ولكن ما هو البرنامج السياسي والرؤية النظرية الذي ستستقي منها تلك الأشكال نشاطاتها وتنظيم نفسها وشؤون الناس وسواه؟ أسئلتنا هذه، بقصد الحفاظ على أصل الثورات كما هو، أي كثورات شعبية، وسلمية، والحفاظ على نزاهتها، ورفض عسكرتها، أو تمويلها، وكذلك رفض كل شكل للتطييف فيها.
يكرّر محلّلون كثيرون أن الموجة الثانية من الثورات (الجزائر، السودان، لبنان، العراق) عَزلت، بشكل نهائي، الإسلام السياسي وأشكال التطييف، ولم تطرح من أصله قضية علاقة الدين بالسياسة، ويبدو أن غياب الطائفية السياسية عن الثورات، ووجودها في الحكم "العراق لبنان" قد سهَلَ مهمة الناس في التحشيد للثورات وعدم ركوب الطائفية السياسية عليها، حيث الثورات ضدها وهي السلطة؛ الثورات سببها الإفقار والفساد والنهب، وتلك الطائفية اغتنت بسبب ذلك. وبالتالي، صار للثورات هدفين كبيرين: رفض كل شكل للحكم غير العلماني الديموقراطي، ورفض كل شكل للاقتصاد يسمح بالفساد والنهب والتوزيع غير العادل للثروة وضرورة إنصاف الكتلة الكبرى من المفقرين. وبالتالي ومجدّداً أي شكل للحكم سيحقّق هذين الهدفين؛ إن رؤية تعثر تونس اقتصادياً واجتماعياً بالتحديد، وهي البلد الذي يقال إن الثورة نجحت فيها، يساهم في ضرورة إيلاء أسئلتنا أعلاه الضرورة القصوى من المحللين والباحثين والثوار.