يتردد الشاب الليبي طارق مصطفى، على أحد فنادق مدينة طبرق (أقصى شرق البلاد)، بحثا عن مسؤولي ملف علاج جرحى الحرب، علّه يجد فرصة من أجل إرساله لإجراء عملية جراحية بالخارج، بعد إصابته مؤخرا بطلق ناري في ساقه، ما جعلها معرضة للبتر. يشعر طارق المنتمي إلى مدينة الزنتان (غرب ليبيا)، بالحنق الشديد على السياسيين العاملين في الحكومة المنبثقة عن برلمان طبرق، إذ تؤلمه جراحه بينما "يعيش القادة والمسؤولون رفاهية لا يحلم بها هو وبقية جرحى النزاعات المتواصلة في ليبيا منذ ثورة 17 فبراير"، كما يقول.
لكن مأساته زادت بعدما قرر برلمان طبرق حلّ كافة لجان علاج الجرحى بالخارج في شهر أغسطس/ آب الماضي، وهو القرار الذي جاء بعد تفشي ظاهرتي الفساد المالي وإهدار المال العام في ملف علاج جرحى الحرب، كما يقول مدير إدارة الإعلام بوزارة الصحة المؤقتة التابعة لبرلمان طبرق معتز الطرابلسي لـ"العربي الجديد".
اقرأ أيضاً: آثار ليبيا ضحية التشويه والسرقة والقذافي
الانقسام ضاعف المعاناة
يؤكد الطرابلسي أن مسؤولية إدارة الملف أسندت لوزارة الصحة، ولكن بسبب الانقسام السياسي الحاصل في البلاد اقتصر تنفيذ القرار على السفارات والملحقيات الصحية التابعة للحكومة المؤقتة فقط (في ظل الانقسام الذي تعيشه السلطة في ليبيا تتوزع ولاءات سفاراتها بالخارج وملحقياتها بين حكومة الإنقاذ المنبثقة عن مؤتمر طرابلس والحكومة المؤقتة التابعة لبرلمان طبرق، في حين تعلن أخرى ولاءها لأحزاب وأيديولوجيات معينة بينها نظام القذافي)، بينما لم ترضخ للقرار السفارات الموالية للمؤتمر الوطني بطرابلس والحكومة المنبثقة عنه (حكومة الإنقاذ) المسيطرة على غرب البلاد.
ويتابع "استلمت وزارة الصحة ملف الجرحى من بعض اللجان التي شكلت في السابق للإشراف على الأمر في بداية شهر سبتمبر/ أيلول العام الماضي 2015، وفقاً لقرار مجلس رئاسة وزراء الحكومة المؤقتة وتم التعاقد مع مصحات متخصصة لعلاج الجرحى في الإسكندرية بمصر والمستشفى العسكري بالإسكندرية و3 مصحات في تونس، ولكن بعد 3 أشهر من الاستلام تم سحب الملف في ديسمبر/ كانون الأول العام الفائت من وزارة الصحة وتسليمه لرئاسة الأركان والقيادة العامة للجيش (بقيادة حفتر) لتتولى إدارته بشكل ذاتي ومباشر بواسطة لجان تابعة لها، بينما تختص وزارة الصحة حاليا فقط بملف علاج المرضى من المواطنين المدنيين كمرضى الأورام وبعض الحالات التي لا يتوفر علاجها في داخل ليبيا".
يشير الطرابلسي إلى أن ملف الجرحى في ليبيا يعد أصعب الملفات الشائكة وأكثرها فساداً، منذ اندلاع ثورة 17 فبراير، إذ تراكمت ديون كبيرة لصالح مشافي ومؤسسات أجنبية يقع عبء سدادها على عاتق وزارة الصحة في الحكومات المتعاقبة، ولفت إلى أن جزءاً كبيراً من الأزمة الحالية لجرحى تابعين للحكومة المنبثقة عن برلمان طبرق يعود إلى كون وزارة الصحة بالحكومة المؤقتة لم تستلم ميزانية عام 2015 بسبب الانقسام السياسي الحاصل في البلاد.
اقرأ أيضاً: "بنغاليون" في ليبيا.. ضحية سماسرة الرقيق
جذور الفساد
الفساد في ملف علاج جرحى الثورة والنزاعات الليبية ليس حديث العامين الماضيين، إذ ترجع جذوره إلى سبتمبر/ أيلول 2011، بحسب وزيرة الصحة السابقة فاطمة الحمروش، والتي وصفت تقريراً قدمه رئيس هيئة شؤون الجرحى في أواخر ديسمبر/ كانون الأول 2012 إلى مجلس الوزراء بأنه مليء بأمثلة مروعة للتجاوزات المالية والأخلاقية، إذ أفاد التقرير بأن ما تم صرفه للعلاج بالخارج خلال شهر ديسمبر/ كانون الأول فقط عن طريق الهيئة كان قد تجاوزت قيمته 220 مليون دولار.
تعنت المسؤولين
كثيراً ما بحث الشاب الجريح نجيب سعيد عن مقر إداري معروف ومعلوم يقيم به رؤساء اللجان التي كلفت بعلاج الجرحى، للتواصل معهم لتسهيل الإجراءات، لكنه ورفاقه لم يستطيعوا الوصول إلى أي مقر، وفي حالات كثيرة تم منعهم من دخول الفنادق التي يتواجد بها المسؤولون في وزارة الصحة في طبرق بناء على توصيتهم، كما قال سعيد لـ"العربي الجديد".
ويعتقد الدكتور محمد الأجنف رئيس لجنة علاج ومتابعة جرحى الحرب الليبيين في تايلاند التابعة لحكومة الإنقاذ في طرابلس بصحة ما وقع مع نجيب سعيد، إذ يقول لـ"العربي الجديد" إن شكوى الجرحى من تعنت الجهات المختصة في إيفادهم للعلاج ومماطلتهم وإهدار حقوقهم تعبر عن الحقيقة والواقع الناتج عن عدم دراسة الملف وعشوائية إدارته واستشراء الفساد في اللجان المكلفة به.
الأجنف أكد أيضاً أن أهم مشاكل الجرحى تتمثل في إهمال الحكومات المتعاقبة للملف والتعامل معه باستهتار، إذ إن القائمين على اللجان أكثرهم ليسوا من الأطباء ولا دراية لهم بمتطلبات المسؤولية الملقاة على عاتقهم، كما أن الدولة قامت بتحويل مبالغ مالية طائلة إلى بعثات في دول أوروبية يعتبر العلاج فيها باهظ التكاليف ومعقد الإجراءات، وهو ما لا يتوفر لغالبية الجرحى ولا يستطيع الجريح الوصول إليها دون المرور بوساطات ومعاناة تزيد من آلامه وتأخر مداواة جراحه.
ورغم انحسار بؤر الصراع عقب تحرير ليبيا من نظام القذافي في عام 2011، فقد بلغ عدد الجرحى الذين أرسلتهم وزارة الصحة في حكومة الإنقاذ المسيطرة على غرب ليبيا 83 جريحا في النصف الأول من شهر يناير/ كانون الثاني بداية العام الجاري، أما خصيمتها الحكومة المؤقتة المسيطرة على شرق البلاد فقد أرسلت منذ شهر يوليو/تموز من العام الماضي حتى بداية الجاري 102 جريح، بتكلفة إجمالية تقدر بـ 476,000 ألف دولار وفقاً لمدير إدارة الإعلام والتوعية في وزارة الصحة معتز الطرابلسي.
اقرأ أيضاً: الدواء في زمن الحرب: التهريب شرقا وغربا إلى ليبيا
فوضى إدارية
منذ أحداث الثورة وحتى الآن في شرق البلاد وغربها وفي ظل الانقسام القائم تعددت قنوات تسفير الجرحى والمرضى والجهات التي تتولى إبرام العقود والإشراف على عملية العلاج والتسكين والتسفير بشكل عشوائي وبغير تخويل رسمي أحياناً، ووفقاً لحسابات متعددة تجمعها الفوضوية والتسيُّب، كما رصد معد التحقيق، عبر شهادات لجرحى ممثلين لجميع أطراف الصراع.
وبحسب تقرير سابق صدر في مارس/آذار من عام 2012 فإن لجنة تحقيق في فساد لجان الجرحى كشفت أن مشفى ميتروبوليتان في اليونان تزدحم غرفه بخمسة أسِرّة في حجرة لا تتسع لأكثر من ثلاثة، إضافة إلى استضافة بعض الجرحى في أقسام الأطفال والعجزة، كما كشف عن أن نسبة كبيرة من المقيمين في اليونان ليسوا من جرحى الثورة بل أصحاء تدفعهم الرغبة في التمتع بالإقامة المجانية والخدمات الفندقية سياحة على حساب حقوق الجرحى، وهو ما تكرر مؤخرا في مشافي دول متعددة أرسلت إليها الجهات التابعة لحكومة المؤتمر الوطني وحكومة برلمان طبرق مصابين وجرحى في النزاعات المتوالية، بحسب مصدر في وزارة الصحة التابعة للحكومة المؤقتة في طبرق.
وأرسلت الجهات المختلفة التي تعاقبت على إدارة الملف خلال الخمسة أعوام الماضية جرحى الحرب إلى 41 دولة مختلفة هي "الأردن، مصر، تركيا، اليونان، تونس، المغرب، إيطاليا، بريطانيا، إيرلندا، البوسنا، سلوفاكيا، تشيكيا، هولندا، الدنمارك، إسبانيا، البرتغال، بلجيكا، النرويج، الهند، ماليزيا، إيران، الكويت، قطر، الإمارات، لبنان، كندا، أميركا، بيلاروسيا، أوكرانيا، رومانيا، السويد، مالطا، فرنسا، المجر، صربيا، كرواتيا، الصين، فنلندا، بولندا، ألمانيا، بلغاريا".
اقرأ أيضاً: مشافي ليبيا .. "كلاشينكوف" في غرف العمليات
التربح من وراء المصابين
لم يعد الشاب الليبي فرج المبروك، يندهش من مشاهدة زملاء له تم إرسالهم للعلاج معه في الخارج، من أمراض وإصابات لا علاقة لها بالحرب وجبهات القتال، وهو ما يطابق تقريراً سابقاً أصدرته وزيرة الصحة السابقة فاطمة الحمروش، في عام 2012، إذ تم صرف أموال طائلة غير معروفة الوجهة بشكل عشوائي من موازنة هيئة شؤون الجرحى، استفاد منها المشرفون على الهيئة وبعض المسؤولين النافذين، مما أدى إلى استغلال هذه الأموال كمصادر تربح مفتوحة المصدر، ما ورط هيئة الجرحى في فساد بيّن في الإدارة، إذ لم تخضع لمتابعة من ديوان المحاسبة، ولم تنشئ قاعدة بيانات ولم توفر مستندات تبيّن الكيفية التي تم بها صرف ميزانية الهيئة أو الأرصدة المتبقية والعقود التي تعاقدت بها لعلاج الجرحى.
التقرير أكد أيضاً قيام هيئة الجرحى سابقاً بإيفاد عدد كبير من الحالات المرضية (غير الجرحى) كحالات علاج العقم وتقويم وتجميل الأسنان لذوي الوساطات والمحسوبيات أو حالات يتوفر علاجها محلياً تحت بند جرحى النزاعات، الأمر الذي تسبب في تكبيد الخزينة الليبية ديوناً كبيرة. كما لوحظ وفقاً للتقرير أن الحالات تواجدت في المشافي والفنادق لمدد طويلة كانت تصرف عليها الأموال الطائلة دون مبرر، كما تم اكتشاف تجاوزات كبيرة في الأسعار والفواتير ثبت أن بعض مسؤولي بعثات العلاج يمتلكونها أو شركاء في الجهات المستفيدة من تقديم الخدمات للجرحى مثل الفنادق والمشافي والمطاعم.
للأسباب السابقة فإن الدكتور الأجنف لا يرى بديلاً للقضاء على مأساة الجرحى وإهدار المال العام سوى حصر ساحة العلاج في دولة واحدة تخضع لرقابة دقيقة ومتابعة مستمرة؛ لمنع تشتت الإنفاق تتسم بكونها رخيصة التكاليف علاجاً ومعيشة.