ولأن مدينة الجزائر كانت، وعلى مدى ثلاثة قرون، تبسط هيمنتها الكلّية على المتوسّط بفضل أسطولها الأقوى (1518 ـ 1827)، فقد احتلّت النصيب الأكبر من فضاءات هذه الروايات؛ على غرار "علوج علي، ملك الجزائر" (2011)، لـ سانتينو أوليفييرو، و"علي بتشين، باشا إيطالي في الجزائر" (2015)، لـ ريكاردو نيكولاي، و"أمير الجزائر" (2015)، لـ بييترو بيتشاو.
وقد سيطرت نبرة الاحتفاء بالأصول الإيطالية لقادة المدينة الأقوى آنذاك على جلّ الروايات التي استثمرت في اسم "المدينة البيضاء" في عناوينها، حاذيةً حذو أولى الأعمال الإيطالية التي استعانت باسم العاصمة الجزائرية، على غرار أوبرا "فتاة إيطالية في الجزائر" لـ جواكينو روسيني، التي تمّ عرضها لأول مرّة عام 1813 في البندقية، وبعده إيميليو سالغاري بروايته "فهود الجزائر" (1903)، والتي تُعدّ إحدى أهم رواية المغامرات في الأدب الإيطالي إلى يومنا هذا، إلى جانب "ساندوكان".
وإن كانت "فتاة إيطالية في الجزائر" و"فهود الجزائر" وغيرهما من الأعمال الأوروبية التي واكبت سقوط مدينة الجزائر غداة تحطُّم أسطولها كلياً في معركة نافارين عام 1827، مُسجّلةً انتهاء هيمنتها على المتوسّط وانطلاق الحملات الكولونيالية التي قلبت موازين القوى بين الشرق والغرب، قد كُتبت من منظور استشراقي بحت، حمل خطاباً فيه الكثير من العنصرية، فقد ساعد سياق "الصوابية السياسية" الذي نعيشه حالياً على تنقية الأعمال الإيطالية المعاصرة من مصطلحات الحقبة الاستعمارية الصارخة لكتّاب القرن التاسع عشر.
غير أنه لا يمكن إلّا أن نلاحظ بأن الإرث الاستشراقي لا يزال ملموساً في الكثير من الأعمال الإيطالية الصادرة حديثاً، وإن كان على نحو أقل فجاجة، وربما بشيء من "العفوية"، لكنه أثّر على تماسك القصدية الخطابية لبعضها، ذلك أن المواد الاستشراقية، أنثروبولوجية كانت أم تاريخية، ما زالت تُعدّ الخزان المعرفي الأساسي في الغرب، لتأثيث الفضاءات الشرقية في السرديات الأدبية.
في المقابل، وفي روايته "مسيحيو الله"، التي صدرت عن "منشورات إي/ أو" في 2008، وتدور أحداثها في مدينة الجزائر عام 1541، يبدو لافتاً أن ماسيمو كارلوتو (1956)، أثّث فضاءً روائياً بمنظور خارجٍ عن السرب الاستشراقي، بجهد معرفي واع ومهارة عالية في حبك الأحداث، ظهر فيها تمكّن الكاتب من أدواته السردية وحرفيته في استثمار وقائع التاريخ وتطويع اللعبة الدرامية لخدمة فكرة مركزية امّحت من خلالها الحدود الوهمية بين الشرق والغرب وشمال وجنوب المتوسّط.
الرواية، التي وضع مقدّمتها الجزائري عمارة لخوص، تبدأ بتصوير كواليس الهزيمة التاريخية لجيش شارل الخامس الذي سُحق على أبواب مدينة الجزائر، على يد ريّاس البحر الجزائريين ذوي الأًصول الأوروبية بقيادة حسن آغا، والذي كان يحكم "المدينة البيضاء" بتفويض من سلطان القسطنطينية وبتزكية من خير الدين بربروس. وقد كان معظم هؤلاء الريّاس مسيحيّي الولادة، ثم اعتنقوا الإسلام لدى قدومهم إلى الجزائر، لأسباب متعدّدة؛ كالحصول على العتق من العبودية، أو عن قناعة دينية، أو من أجل امتهان القرصنة التفويضية على سواحل البحر الأبيض المتوسّط تحت حماية قوة كبرى كالباب العالي، وهو عمل كانت تحكمه تشريعات دولية آنذاك.
وفي حالة الرايس رضوان وعثمان، الأول من أصول ألبانية والثاني من أصول ألمانية، وهما بطلا الرواية المثليان اللذان كانا يعملان كمرتزقَين في جيوش النبلاء بأوروبا، فقد اختارا الهجرة إلى الجزائر من أجل أن يعيشا بحرّية في المدينة التي كانت تحكمها قيم الليبرالية المطلقة، وحيث كانت الحياة الشخصية للأفراد لا تخص أحداً سواهم، فـ"قد كان مصير الفرد في مدن مثل الجزائر، شرشال، تونس وغيرها من المدن التي يحكمها ريّاس البحر، لا يحدده النسب، وإنما القدر، والشجاعة التي يتحلّى بها كل فرد وكفاءته".
وينطلق ماسيمو كارلوتو في روايته في تفكيك الصور النمطية عن "الرايس" الجزائري في الحقبة العثمانية أو "القرصان" الذي يجري اختصار اسمه في الأدبيات الاستشراقية، عادةً، بـ"التركي"، والذي لطالما صُوّر على أنه وحشي، وبربري، ومتعطّش للدماء من جهة، أو أبله، دميم وشبقي من جهة أخرى.
يظهر حسن آغا، حاكم الجزائر، في كل مشاهده تقريباً في الرواية بلقب "إل ساردو" تذكيراً بأصله الذي يعود إلى جزيرة سردينيا الإيطالية، فهو لم يكن تركياً، وهو حال معظم "القراصنة" آنذاك: "كنّا جميعاً مثله معتنقون للإسلام، وقد اجتمعنا في طائفة الريّاس، وهو الاسم الذي كان يُطلَق على تجمّع قادة الأسطول البحري، القوّة الضاربة للجزائر، مدينتنا".
وردت هذه العبارة خلال وصف اجتماع سبق التخطيط لمعركة ضد جيش شارل الخامس، رأس حربة العالم المسيحي آنذاك، إذ جرى ذكر أسماء جميع المشاركين فيه واحداً واحداً بأصولهم الأوروبية وعلى رأسهم البايلرباي ذو الأصل الإيطالي الذي "كان يحمل اسم حفيد الرسول حسن، وهو اسم يعني طيّب. وقد كان حسن آغا أحياناً طيّباً. لكنه كان، بالدرجة الأولى، عادلاً". وعدا أنه لم يكن كائناً وحشياً، بل طيّباً وعادلاً أيضاً، لم يكن حسن آغا في رواية كارلوتو يشبه حاكم الجزائر في أوبرا روسيني ذلك "الأبله، الدميم، شديد البدانة"، "وإنما كان وسيماً قوي البنية بملامح جميلة ونضرة، وكأن الأربع والخمسين سنة من عمره قد نحتها أمهر الفنّانين".
من ناحية أخرى، لم يغفل كارلوتو الصورة النمطية الأكثر شيوعاً عن الشرقي، والتي تصوّره على أنه عبد مطلق للملذات الحسية ومحتقرٌ للمرأة بالفطرة، حيث مثّل هذا الدور، بامتياز، رايس قصير وسمين اسمه مامي جوديكا، والذي مارس وحشيته الذكورية في أبشع صورها ضد السبيّة الإيطالية لوتشيا، مع ملاحظة أن مامي لم يكن هو الآخر "شرقياً"، بل يتحدر من البندقية، وطن المغنّية الإيطالية التي "تتكلّم لغته"، وقد اشتراها من سوق النخاسة وأمر بتسمينها بما يتناسب مع معايير جمال الحقبة.
أمّا فكرة التعطّش للدماء والقتل المجاني التي كانت ولا تزال تؤثّث مشاهد "الأكشن" في هذا النوع من الروايات، فقد نسفها كارلوتو على لسان الرايس رضوان الذي يقول ببراغماتية شديدة: "في حرب القرصنة كان الهدف هو إيقاع الرجال في الأسر والحصول على الغنائم من أجل بيعها في السوق. لم يكن يتم اللجوء إلى القتل سوى عند الضرورة". لقد كان الأسرى الذين يُطالَب بفديات كبيرة مقابل تحريرهم "سلعة غالية جدّاً"، ولم يكن يجري إهدارها لأغراض سادية.
والواقع أن الجزائر في رواية كارلوتو كانت مدينة تحكمها قيم الليبرالية المطلقة، حيث كان أرباب المال والأعمال هم الذين يكادون يحدّدون قيم العيش ويخطّون سياسات الحرب والسلم؛ فمباشرةً، وبعد انهزام شارل الخامس وفراره رفقة حرّاسه المقرّبين والنبلاء الذين رافقوه في الحملة، ترك وراءه المئات من جنوده في قبضة الانكشاريين الذين شرعوا في تصفيتهم في مشهد رهيب، وهو ما اعترض عليه كل الريّاس أمام حسن آغا، إلّا أن الأخير لم يبتّ في أمرهم مباشرةً: "إذا أبقيتُهم على قيد الحياة، سيهبط سعر العبد غداً في السوق إلى ما يعادل البصلة. وهو ما سيغضب الأعيان والتجّار، وسأصبح مطالَباً بتقديم تبريرات للباب العالي".
وبعدما نصحه أحد الريّاس، وهو من أصل حلبي، بعدم تلطيخ سمعته ونصره بمجزرة كهذه، قدّم أحدهم مقترَحاً ذكياً يتمثّل في "تسخير كل تلك الأذرع في إعادة بناء أسطول لا يُقهَر"، ليأمر حسن آغا بعدها بإيقاف المجزرة "ليصبح هؤلاء عبيداً لمجد الجزائر".
وإن كانت صور العبيد وأسواق النخاسة اللاإنسانية هي الأكثر تأثيثاً للسرديات الاستشراقية، فقد حرص كارلوتو على تقديم صورتها الكاملة بكل أطيافها في الرواية، من خلال الإشارة إلى نفوذ السلطانة كلبهار خاتون في عاصمة الإمبراطورية، رغم أنها "جارية سابقة"، مروراً بالعبيد الذين كانوا يعيشون في الجزائر كجالية مسيحية ويمارسون أعمالاً مختلفة بحسب مهاراتهم والحرف التي يتقنونها إلى حين سداد فديتهم من طرف عائلاتهم من الضفّة الأخرى، وقد كانت لهؤلاء أدوار مركزية في الرواية غيّرت مجرياتها، في إسقاطٍ واضح للدور المحوري لهذه الفئة داخل المجتمع الجزائري آنذاك، وصولاً إلى الدرك الأسفل من العبيد، وهم الذين كانوا يعملون بالتجذيف على القوارب.
إلّا أن المثير للاهتمام كان وصف نوع من العمّال كان يُطلَق عليهم اسم "البونافوليا"، وهم أشخاص غارمون أو مفلسون كانوا يطلبون العمل مقابل بضعة دراهم في التجذيف على السفن، وقد كان الفرق الوحيد بينهم وبين العبيد هو أنهم لم يكونوا مقيّدين بالسلاسل، وكانوا يعملون على السفن المسلمة والمسيحية على حد سواء، لا سيما في البندقية، ولم تكن حياتهم تدوم لأكثر من ثلاث أو أربع سنوات بسبب ظروف العمل القاسية، في تصوير واضح لتكافؤ القيم "الإنسانية" في هذا الصدد بين الشرق والغرب في وقتها.
ورغم أن الصورة السائدة للعلاقات الدولية آنذاك كانت تبدو محكومةً بصراع ديني متجذّر وخلافات أيديولوجية جوهرية بين معسكرَين لم يكن يجمع بينهما سوى الحروب، إلّا أن الرواية أظهرت جانباً من العلاقات التي لا يجري التركيز عليها عادةً؛ حيث يَظهر حسن آغا بعد انتهاء المعركة ضد شارل الخامس وهو يدعو الريّاس لاستئناف حملاتهم من أجل جمع غنائم للمدينة: "علينا أن نستأنف المعاملات التجارية مع المسيحيّين، وإلا سيقومون بعقد اتفاقات مع ريّاس مدن أخرى. مبعوثو ليفورنو يهدّدون بالتخلّي عن الجزائر، ومن دونهم سلعنا لن تجد لها سوقاً في وسط أوروبا". والحقيقة أن سلع الجزائر كانت تُباع للأوروبيّين أنفسهم ضمن معاهدات تجارية بين الدول، إذ لم يكن هناك البتة أي نوع من أنواع القطيعة أو المقاطعة الاقتصادية بين دول الشرق والغرب التي يُقال إنها كانت متقاتلة لأسباب دينية.
وتذهب الرواية، في وصف شكل العلاقات الحقيقية آنذاك، لتصوير الاحتفاء الرسمي الذي شهدته مدينة تولون لدى زيارة خير الدين بربروس لها رفقة ثلاثين ألفاً من الريّاس والإنكشاريين، بأن حوّلت المدينة الفرنسية واحدة من كاتدرائياتها إلى مسجد، و"بعد هذه الزيارة لم يكن الحديث في المدينة سوى عن أمناء الخزينة الاثنين والثلاثين الذين عدّوا، على مدى ثلاثة أيام، ثمانمائة ألف قطعة ذهبية، كدّسوها في أكياس لتُحمَل على سفن خير الدين الذي طالب بهذا المبلغ نظير قتاله إلى جانب فرانسوا الأول. ولم يبق بعدها في تولون لا مال ولا جواهر، ولا حرير ولا أي مواد تموينية".
وقد صوّر الكاتب زيارة الرايس العثماني للمدينة الفرنسية كزيارة أي زعيم ليبرالي يحسن استغلال ثروات وموارد الشعوب التابعة؛ إذ "حرص بربروس على امتصاص نخاع المدينة... وها هو يستعد للعودة إلى القسطنطينية بعدما أحرق السواحل الإيطالية رفقة البارون لاغارد، أحد أكثر حلفائه الفرنسيين وفاءً"، في إشارة أخرى واضحة إلى حقيقة التحالفات القائمة بين الدول، والتي لم يكن الدين بالضرورة أحد محدّداتها وإنما المصالح الاقتصادية، وهو ما كان يعرفه جيّداً حسن آغا الذي صوّره العمل كسياسي ذكي، وديمقراطي، وبراغماتي يحسن استخدام أدوات الحكم جميعها، بما فيها ورقة الدين التي افتتح كارلوتو الرواية بتوظيفها.
غير أن ملامح بداية السقوط وانتهاء زمن "الريّاس" والهيمنة الجزائرية على المتوسّط، تجلّت في لحظة معبّرة من الرواية أدار فيها الجميع ظهره للإنسان (عثمان)، إكراماً لـ"القازان" (رمز الأخوية الانكشارية)، ليأخذ العمل مساراً جديداً، تماهى مع التحوّلات التي عرفها العالم إلى غاية يومنا هذا.
البعد الإيكولوجي كان أيضاً حاضراً في العمل، كما أن دور الفن الاستشرافي كان بارزاً فيه، من خلال الحضور الرمزي لشخصية الموسيقي الأرمني سوغومون، هذا بالإضافة إلى مهمّة رجل العلم داخل المجتمع، والذي ظهر من خلال الجرّاح بيدرو، المهاجر ذي الأصل الإسباني.
وقد بدا لافتاً تركيز الرواية على حياة الريّاس والطبقة الحاكمة، من رجال سياسة واقتصاد ودين، دون تصوير حياة الجزائري العادي الذي ترك كارلوتو أمره، على الأرجح، للكاتب المحلي.
من خلال هذا الغياب، تتجلى أبرز ملامح الانقلاب على أحد أهم منطلقات الاستشراق الأساسية: "إنهم لا يستطيعون تمثيل أنفسهم. ينبغي لأحد أن ينوب عنهم"، لتكتمل بذلك رؤية العمل الذي أتى ممتعاً ومتوازناً، جرى فيه استثمار التاريخ لكسر ثنائية الشرق والغرب والشمال والجنوب، دون الوقوع في فخ الوعظيات "الغيرية" المباشرة التي بدأت بإغراق الأدب العربي، إلى جانب السرديات النيو كولونيالية القائمة على الفصل بين "الأنا" الشرقية المتخلّفة الهمجية والظلامية و"الآخر" الإنساني المتحضّر والعقلاني. قرّر ماسيمو كارلوتو صهر الأنا في الآخر، والشرق مع الغرب ضمن لحظة سردية محكمة سمّاها "مسيحيو الله".