02 نوفمبر 2024
جلبي أو أكثر لسورية
يلوح لي أن التفتيش عن مخرج من الكارثة السورية قد بدأ فعلاً، وأن السباق نحو خط النهاية انطلق جدياً. ولا ريب أن الوصول إلى خاتمة الأحزان دونه أهوال ودمار ودماء. ومع ذلك فقد بدأ، منذ الآن، التخطيط لسورية ما بعد الحرب. وغداة أي حربٍ لا بد من جلبي جديد، وستحتاج سورية إلى مائتي مقاول من عيار رفيق الحريري، لإعادة تعميرها وإنهاضها. وفي إمكاننا أن نتخيل، استناداً إلى التجربة الملموسة في لبنان والعراق، آلاف المقاولين والنصابين والنهابين والأفاقين والباحثين عن فرص لجني الثروات السريعة، وهم يتدفقون على سورية، فرحين مثل العجول الصغار إذا حُلَّ رباطها، وأُطلقت على ضروع أمهاتها. وسيتراكض اليساريون إلى الارتماء بين أرجل أولئك المقاولين، وسيتدافشون للوصول إلى عتباتهم، والدفاع عن البنائين الجدد للدولة الحديثة. وسيعود آلاف المهاجرين لاقتناص الفرص الذهبية، وسيتكاثر كالفطر الخريفي عدد خبراء الدساتير والقوانين، وستتدفق أفواج من سماسرة السلاح، وستعوم المصارف بالأموال المغسولة، وتزداد أرقام الودائع الجديدة إلى ما فوق السبعة أصفار بالدولار الأميركي.
وفي الوقت نفسه، ستستولي المليشيات المسلحة، بعد أن تضع الحرب أوزارها، على الأراضي والمباني، وعلى الجيش وأجهزة الأمن، مثلما حدث في العراق ولبنان. وستحتل الطوائف المتكارهة والإثنيات الثأرية المشهد الإعلامي، وستظهر مليشيات ثقافية تابعة لهذا المقاول أو ذاك، وستؤسس صحف كثيرة ومحطات للتلفزة، ومجلات للإعلان والدعاية والترويج، علاوة على مراكز لا تحصى للبحوث والدراسات، فضلاً عن جمعيات لا عدَّ لها ذات غايات مريبة. وستسيل الأموال إلى الجيوب، وستكون الخيبات من نصيب المقاتلين والجرحى. وفي خضم هذا العياء غير الافتراضي، ستخبو الحياة والنضارة في الديار السورية المهجورة، وستنحطّ الفنون والآداب والأخلاق، وستستشري الرثاثة في كل مكان.
في سنة 2011، تابعنا بشغف إرادة التوثب لدى السوريين التي تجسدت في التظاهرات السلمية الشجاعة. لكننا، وبسرعة، بدأنا نكتشف كيف صار المثقفون مثل الكرة الطائرة التي تنتقل من يد إلى يد، أو مثل كرة "البينغ بونغ" التي ما إن تصبح في جانب الطاولة حتى ترتد إلى الجانب الآخر بسرعة عجيبة. ومن مفارقات هذا الزمان، أن سورية شبه العَلمانية التي كانت ثاني أكبر دولة مضيفة للاجئين في العالم بعد أفغانستان (600 ألف فلسطيني، ونحو مليون ونصف المليون عراقي، وقرابة 500 ألف لبناني ومصري وسوداني وجزائري وأحوازي وارتيري.. إلخ) باتت أكبر تجمع للإرهابيين في العالم كله، بينما تونس شبه العلمانية صارت أكبر دولة في تصدير الإرهابيين إلى العالم كله. وإذا صحَّ هذا الكابوس المتخيَّل، فإن سورية ستكون على أبواب مرحلةٍ، تنتصر الغوغاء فيها نهائياً، ويخلي التفكير مكانه لموت الفكر.
في الماضي، اشتُهرت أغنية "البنت الشلبية" بصوت فيروز. والشلبية نسبة إلى مدينة شَلَب الأندلسية التي عُرفت بجمال نسائها. ومن معاني "الشلبي" التي يكتبها العراقيون "الجلبي" التاجر ذو الوجه الوضاح. لنتذكّر أن نجم أحمد الجلبي بدأ يلمع في العراق قبيل احتلاله، وهو المعروف بانغماسه في الاحتيال النقدي (بنك البتراء في الأردن) وفي خدمة الاستخبارات العسكرية الأميركية، وهو الذي سرق النسخة العراقية النادرة من التلمود البابلي، وأهداها بكل "شرف" إلى الإسرائيليين. وعلى منواله، ستنقف الأرض السورية مئات الجلبيين. ومثلما قضى المستعمرون الأوروبيون على حضارة الأزيتيك، وقضى الرومان قبلهم على الحضارة المصرية القديمة، سيقضي الإرهاب على ما تبقى من تاريخ سورية العظيم، وستندثر الكتب والآثار والفنون، وسيهاجر مزيد من الناس إلى المنافي البعيدة، على غرار ما يفعلونه اليوم، وستصبح أغاني فيروز مدعاة للضحك والتندّر، وسيسخر كثيرون من سعيد عقل، حين كتب عن دمشق قائلاً:
قرأت مجدكِ في قلبي وفي الكتبِ/ شآم ما المجد؟ أنتِ المجد لم يغبِ
وفي الوقت نفسه، ستستولي المليشيات المسلحة، بعد أن تضع الحرب أوزارها، على الأراضي والمباني، وعلى الجيش وأجهزة الأمن، مثلما حدث في العراق ولبنان. وستحتل الطوائف المتكارهة والإثنيات الثأرية المشهد الإعلامي، وستظهر مليشيات ثقافية تابعة لهذا المقاول أو ذاك، وستؤسس صحف كثيرة ومحطات للتلفزة، ومجلات للإعلان والدعاية والترويج، علاوة على مراكز لا تحصى للبحوث والدراسات، فضلاً عن جمعيات لا عدَّ لها ذات غايات مريبة. وستسيل الأموال إلى الجيوب، وستكون الخيبات من نصيب المقاتلين والجرحى. وفي خضم هذا العياء غير الافتراضي، ستخبو الحياة والنضارة في الديار السورية المهجورة، وستنحطّ الفنون والآداب والأخلاق، وستستشري الرثاثة في كل مكان.
في سنة 2011، تابعنا بشغف إرادة التوثب لدى السوريين التي تجسدت في التظاهرات السلمية الشجاعة. لكننا، وبسرعة، بدأنا نكتشف كيف صار المثقفون مثل الكرة الطائرة التي تنتقل من يد إلى يد، أو مثل كرة "البينغ بونغ" التي ما إن تصبح في جانب الطاولة حتى ترتد إلى الجانب الآخر بسرعة عجيبة. ومن مفارقات هذا الزمان، أن سورية شبه العَلمانية التي كانت ثاني أكبر دولة مضيفة للاجئين في العالم بعد أفغانستان (600 ألف فلسطيني، ونحو مليون ونصف المليون عراقي، وقرابة 500 ألف لبناني ومصري وسوداني وجزائري وأحوازي وارتيري.. إلخ) باتت أكبر تجمع للإرهابيين في العالم كله، بينما تونس شبه العلمانية صارت أكبر دولة في تصدير الإرهابيين إلى العالم كله. وإذا صحَّ هذا الكابوس المتخيَّل، فإن سورية ستكون على أبواب مرحلةٍ، تنتصر الغوغاء فيها نهائياً، ويخلي التفكير مكانه لموت الفكر.
في الماضي، اشتُهرت أغنية "البنت الشلبية" بصوت فيروز. والشلبية نسبة إلى مدينة شَلَب الأندلسية التي عُرفت بجمال نسائها. ومن معاني "الشلبي" التي يكتبها العراقيون "الجلبي" التاجر ذو الوجه الوضاح. لنتذكّر أن نجم أحمد الجلبي بدأ يلمع في العراق قبيل احتلاله، وهو المعروف بانغماسه في الاحتيال النقدي (بنك البتراء في الأردن) وفي خدمة الاستخبارات العسكرية الأميركية، وهو الذي سرق النسخة العراقية النادرة من التلمود البابلي، وأهداها بكل "شرف" إلى الإسرائيليين. وعلى منواله، ستنقف الأرض السورية مئات الجلبيين. ومثلما قضى المستعمرون الأوروبيون على حضارة الأزيتيك، وقضى الرومان قبلهم على الحضارة المصرية القديمة، سيقضي الإرهاب على ما تبقى من تاريخ سورية العظيم، وستندثر الكتب والآثار والفنون، وسيهاجر مزيد من الناس إلى المنافي البعيدة، على غرار ما يفعلونه اليوم، وستصبح أغاني فيروز مدعاة للضحك والتندّر، وسيسخر كثيرون من سعيد عقل، حين كتب عن دمشق قائلاً:
قرأت مجدكِ في قلبي وفي الكتبِ/ شآم ما المجد؟ أنتِ المجد لم يغبِ