أربع سنوات مرت على إطلالة جمال سليمان في مسلسل سوري، إذ كان آخر ظهور له كضيف شرف في مسلسل "طالع الفضة" (2011)، وقبلها بعام أدى دور البطولة في مسلسل "ذاكرة الجسد" (2010)، إلا أنّ تلك السنوات تبقى مسافة نظرية تفصل بين سليمان وبين الدراما السورية، على نحو لا يصح القول إنه اليوم يعود إليها.
إذ لم تنقطع خلال هذه السنوات الدعوات له للمشاركة في مسلسلات سورية، وفق ما يؤكد في تصريح لـ "العربي الجديد"، مشيراً إلى أنّ "سوء التخطيط، وعدم الالتزام بالمواعيد أحبط محاولتين سابقتين لتقديم عمل سوري"، وبالتالي يقول سليمان: "لا أعد عدم اشتراكي في عمل سوري خلال هذه الفترة ابتعاداً عن الدراما السورية، بقدر ما كان انتظاراً للظرف المناسب للعمل. والظرف المناسب بالنسبة لي، هو النص الجيد والمخرج الذي أنسجم بالعمل معه والتوقيت المناسب للعمل".
تلك الثلاثية التي يختار بموجبها سليمان أعماله، يبدو أنّها اليوم توافرت في عملين اثنين معاً، نسأله عنهما، فيجيب: "عدت للعمل مع أكثر مخرجين عملت معهما، وبتوقيعهما قدّمت أعمالاً أعتز بها. في بداية هذا العام، ارتبطت مع الأستاذ حاتم علي في عمله (سفينة نوح)، ثم عرض عليّ الأستاذ هيثم حقي دوراً في مسلسله الجديد (وجوه وأماكن)، وعلى اعتبار أنّ العمل عبارة عن ثلاث حكايات، كل واحدة منها في عشر حلقات فقط. تم الاتفاق على أن أكون في واحدة منها، خاصة أني لم أعمل مع حقي منذ الخيط الأبيض".
في وقت مضى، ما يقارب العقدين من الزمن ربما، كان ثمة من يسأل: لماذا يبتعد سليمان عن المسرح، ابنه الشرعي؟ وكان سليمان يدفع هذا السؤال بما حققه على صعيد الأداء والتعبير والحضور في أعماله التلفزيونية، ليصير من المجدي صياغته كالتالي: لماذا يقترب جمال سليمان أكثر من التلفزيون وهو ابن المسرح الشرعي؟
البحث في الأجوبة المحتملة عن السؤال السابق بصياغته الجديدة، من شأنه أن يحيلنا إلى قائمة طويلة من الأعمال التي قدّمها سليمان خلال العقدين الأخيرين في الدراما السورية، ومنها: "هجرة القلوب إلى القلوب"، "شبكة العنكبوت"، "اللوحة الناقصة"، "خان الحرير"، "ذكريات الزمن القادم"، "الثريا"، "الفصول الأربعة"، "التغريبة الفلسطينية"، "صلاح الدين الأيوبي"، "ثلاثية الأندلس"... وتلك أعمال لا يمكن إلا أن تغازل بمنطقها الفني هاجس أي باحث عن عوالم جديدة وآفاق مختلفة تثري المخيلة الفنية، ولا سيما أنّ كثيراً منها كان نتاج صناعة درامية تلفزيونية بلغة سينمائية راقية، أسست بدورها لولادة جديدة للدراما السورية في أواخر ثمانينيات القرن الفائت.
تلك التجربة الرائدة تلفزيونياً كان من الصعب أن تعلن عن نفسها دون أن ينحاز إليها فنان مثل جمال، يمتلك ذكاء فنياً وثقافة عالية وموهبة لا يختلف اثنان عليها. وباقترابه أكثر من التلفزيون، كان سليمان يعبّر عن نزوع الفنان المتمرد فيه، الباحث عما يعيد تشكيل المشهد الفني أو يأتي بمشهد مغاير بصدى نقدي وجماهيري بآن معاً، وهو ما وجده في تجربة "السينما المتلفزة" التي أسس لها هيثم حقي ورفاقه العائدون من معاهد السينما إلى التلفزيون.
ونسأل، هل كان المسرح، على مدار هذين العقدين، يستطيع أن يكون نداً حقيقياً للتلفزيون، بمعنى الانقلاب على مشهده السائد، ليحتفظ بأبنائه ومنهم جمال سليمان، ويحول دون انحيازهم لتجربة التلفزيون الجديدة، بكل ما فيها من إغراءات؟ هنا نحن لسنا في معرض التقليل مما أنجزه المسرح السوري خلال هذه الفترة، لصالح تمجيد ما أنجزه التلفزيون، ولكننا نتكلم بالمنطق الفني، عن أي منها تقدم فنياً أكثر.
نبش الأسئلة القديمة تلك عن تجربة سليمان الفنية، ربما يصلح لفهم أي ظرف مناسب ينتظره الرجل اليوم للاشتراك في مسلسل سوري، والمدخل إلى هذا الفهم يتطلب إعادة صياغة سؤال من قبيل: "لماذا ابتعد سليمان وآخرون عن الدراما السورية خلال السنوات الأربع؟" ليصير، "لماذا ابتعدت الدراما السورية عن شكلها الفني الذي أغرى سليمان والآخرين للاقتراب من التلفزيون أكثر؟". تلك الصياغة الجديدة يمليها أيضاً ما أبداه جمال خلال تجربته الفنية السورية من حساسية فنية وذكاء الاختيار، والتصاق بفكر مبتكر ولغة راقية.
بحثاً عن أجوبة للسؤال بشكله الأول، لا بدّ أن نضع نصب عيوننا الظرف السياسي الذي تشهده سورية منذ مارس/آذار 2011، وموقف سليمان الشخصي تجاه ما يحدث هناك، كسبب لابتعاده عن الدراما السورية، لا سيما أنّ أكثر من 75% منها يصوّر في سورية.
وبالعودة إلى ثلاثية سليمان الناظمة لاختيار أعماله، وبالتسليم أنّ عمله في الدراما المصرية لم يمنعه يوماً من الاشتراك في الدراما السورية، إذ إنه قدّم خمسة أعمال سورية منذ تجربته التلفزيونية المصرية الأولى "حدائق الشيطان" (2006)، نجد أنفسنا مطالبين بالبحث عن أجوبة للسؤال السابق بصياغته الجديدة..
"لماذا ابتعدت الدراما السورية عن شكلها الفني الذي أغرى سليمان ليقترب من التلفزيون أكثر؟"؛ فذلك من شأنه أن يحيلنا إلى حالة تقييم عامة للمستوى الفني الذي ظهر به كثير من أعمال الدراما السورية خلال السنوات الأربع، والذي لا يمكن له بأي حال أن يغري فناناً مثل سليمان للانخراط فيه؟ فجمال الذي عهدناه، لا يكف عن البحث العميق في التجربة ونتائجها، لن يجد في كثير من مسلسلات اليوم سوى حالة استهلاكية لا تشبه ما اشتهرت به الدراما السورية.
اليوم، يعود جمال إلى الدراما السورية كآخرين، وليس بالضرورة أن تكون كل خياراته صحيحة، إذا ما قيس الأمر بتجربته بين سورية ومصر، ولكن قياساً بغيابه لأربع سنوات مضت عن الدراما السورية، وعودته الآن عبر عملين لمخرجين هما الأهم في المشهد الدرامي السوري، فمن حقنا أن نأمل بمتابعة عملين من زمن الدراما السوري الجميل، يرفعان نسبة الأعمال الجيدة بما ينتج اليوم، وعندها سنستعير من رائعة نزار قباني "أيظن" عبارته: "رجعت.. ما أحلى الرجوع إليه".