تاريخ حيّ البتاويين في بغداد مختلف إلى أقصى حدّ عن حاضره. فالحيّ الذي كان يوماً ما أرستقراطياً، بات مدينة للممنوعات باختلاف أنواعها... مخدرات ودعارة وعصابات تصنع للحيّ شهرته الجديدة
يتجنب كثير من العراقيين دخول حيّ البتاويين الذي يقع وسط واحدة من أكثر مواقع العاصمة بغداد حيوية. بعضهم يخشى على حياته من الخطف أو الاعتداء، والبعض الآخر يخشى على سمعته، إن شوهد هناك.
وبالرغم من أنّ أزقة معدودة هي ما توصف بـ"المشبوهة" و"الخطرة" و"الموبوءة" لكنّ تلك الصفات بدأت تنتقل شيئاً فشيئاً إلى أزقة أخرى في هذا الحيّ الواسع. هنا تجد متسكعين نائمين على الأرصفة فقدوا وعيهم بعد جرعة كبيرة من المسكرات والمخدرات، وسماسرة يصطفّون للغريب يحاولون معرفة نيّته.
في بعض أزقة هذا الحيّ كلّ ممنوع تجده مثل المخدرات، وبيوت الدعارة، وبيع الأعضاء البشرية، والقتلة المأجورين، وعصابات الثأر والانتقام، وأوكار عصابات الخطف، ومراكز شبكات التسول، والمزورين المحترفين، حتى بات الحيّ "جمهورية" قائمة بذاتها وسط العاصمة.
تاريخ راقٍ
كلّ ذلك جعل شهرة الحيّ ذائعة في مختلف أرجاء البلاد، وأجبر سكانه الأصليين على تركه مرغمين. فالبتاويين كان في سنين خلت أحد الأحياء الأرستقراطية في بغداد، إذ يسكنه كبار موظفي الحكومة وقادتها وكبار التجار والأثرياء. ولدت في هذا الحيّ شخصيات مهمة، من بينها المعمارية المعروفة الراحلة زها حديد، كما كان الرئيس العراقي الراحل عبد الكريم قاسم أحد سكانه.
الحيّ كان وما زال من المواقع المهمة في بغداد، إذ يتصل بعدة أحياء تحوي دوائر ووزارات حكومية، وشوارع حيوية، وفنادق. كذلك، هو مطلّ على نهر دجلة، من خلال شارع أبو نؤاس أحد أبرز شوارع بغداد، وأكثرها شهرة.
حيّ البتاويين سمّي كذلك نسبة إلى مزارعين نزحوا من قرية لبت في محافظة ديالى، وكانوا أول من أقاموا فيه مطلع القرن التاسع عشر. وبمرور الأعوام، بات البتاويين من أرقى أحياء بغداد، فسكن فيه عدد كبير من العائلات المسيحية واليهودية، قبل أن يتعرض اليهود إلى حملة تهجير.
ما زال مئات البيوت التي يعود تاريخ بنائها إلى مطلع القرن العشرين وصولاً إلى منتصفه قائمة في المكان. بعضها يستغل كسكن وقسم آخر تحول إلى ورش ومخازن ومطابع ومراكز أعمال مختلفة.
بيوت دعارة
تعددت أسباب تحول الحيّ من حال راقية إلى سيئة ومشبوهة وخطيرة، بحسب أحمد العبيدي، وهو عقيد متقاعد عمل في سلك الشرطة العراقية. يقول إنّ موقع الحيّ أهم عامل ساعد في هذا التحول. عمل العبيدي في تسعينيات القرن الماضي ضمن فرق مختصة لملاحقة عصابات السطو والتحقيق في قضايا دعارة، وهو ما مكّنه من امتلاك معلومات مهمة حول تلك المشاكل التي يصفها بأنّها "خرجت اليوم عن نطاق السيطرة".
يشير العبيدي في حديثه إلى "العربي الجديد" إلى أنّ البتاويين بدأ منذ التسعينيات في إيواء أوكار عصابات متخصصة بجرائم مختلفة، بعدما كان يقتصر على أوكار الدعارة. يوضح أنّ الدعارة في البتاويين بدأت تنتشر في سبعينيات القرن الماضي، وكانت قليلة جداً ومقتصرة على أزقة قريبة من منطقة الباب الشرقي، وأخرى قريبة من شارع أبو نؤاس.
يضيف أنّ تحول المنطقة إلى مراكز لمختلف الأوكار تسببت به عدة عوامل، منها طبيعة المنطقة الجاذبة للسياحة، لا سيما أنّ أحد أبرز معالمها هو شارع أبو نؤاس الشهير بكورنيشه الكبير المطلّ على نهر دجلة، وانتشار ملاهٍ ليلية في المنطقة، ومحال متخصصة بتقديم المشروبات الكحولية، وعدد كبير من الفنادق السياحية. يعلّق: "تلك الأسباب كانت وراء ظهور بيوت للدعارة منذ السبعينيات، وهي التي تستغل المسافرين إلى بغداد من المحافظات الأخرى الذين ينزلون في فنادق داخل المنطقة. وتستغل وجود الملاهي الليلية ودور السينما التي يرتادها الكثير من الشباب. ويغري السماسرة الشباب ويأخذونهم إلى بيوت الدعارة تلك".
هوية جديدة
يتابع العبيدي أنّ سنوات التسعينيات وما رافقها من حصار اقتصادي عانت منه البلاد وتسبب في نشوء طبقة فقيرة جداً، مع ارتفاع تكلفة العيش مقابل ضعف المداخيل، ساهمت في تبديل هوية الحيّ مرة جديدة. فقد ظهرت فيه عصابات متخصصة بالسرقة والتزوير، وانتشر بيع الحبوب المخدرة. وبات هذا الحيّ أحد أبرز الأوكار لهذه الجرائم، والسبب هو موقعه مجدداً.
مع الغزو الأميركي للبلاد عام 2003 وانعدام الأمن، وجدت العصابات في الحيّ فرصة للظهور العلني، حتى تحوّل إلى مكان خطير فعلاً. ظهرت حينها عصابات مسلحة جعلت من بعض الأزقة أماكن ممنوع الدخول إليها. تبدّلت الحال بعد تشكيل قوات أمنية جديدة، وبات بالإمكان التجول داخل تلك الأزقة، لكن مع أخذ الحذر، فقد يتعرض المار للنشل، لا سيما في الليل.
العبيدي الذي تقاعد من العمل عام 2000، يقول إنّه على اطلاع بما يجري من أوضاع أمنية، وتربطه صلات بضباط عاملين في سلك الشرطة. يتابع أنّ "العمل في سلك الشرطة والأمن بشكل عام في العراق أصبح يمثل خطراً أكبر مما يوصف. اليوم، المجرم صاحب سلطة أعلى من رجل الأمن، فكيف يمارس رجل الأمن مهمته ويلاحقه ليلقي القبض عليه"؟ يوضح: "توسعت في البتاويين اليوم أوكار الدعارة، وباتت تعمل بشكل علني. أيضاً، أصبح الحيّ مقراً لأوكار تجارة المخدرات من بيع وتعاطٍ، وأوكار شبكات المتسولين، والخاطفين، والقتلة المأجورين، وعصابات التزوير".
يتابع أنّ "شبكات متخصصة بالتسول بات مقرها في البتاويين. تعتمد هذه الشبكات على نساء مسنّات وشابات وأطفال من كلا الجنسين ورجال بمختلف الأعمار. كذلك فيه عصابات مأجورة تقدم أيّ خدمة من قتل وخطف ومداهمات".
مهمة أمنيّة صعبة
في البتاويين تتجول سيارات الشرطة بين الأزقة، فضلاً عن انتشار المفارز الأمنية في مواقع ثابتة داخل مواقع رئيسية في الحيّ وفي محيطه، إذ يحتل المكان موقعاً حساساً وهاماً، لا سيما أنّه قريب من المنطقة الخضراء، مقر الحكومة العراقية ولا يفصل بينهما سوى نهر دجلة. كذلك، يتصل الحيّ بساحة التحرير أبرز ساحات بغداد وأكثرها شهرة، وهي مركز التظاهرات عادة.
يقسم البتاويين شارع السعدون الذي يعتبر واحداً من أشهر وأعرق شوارع بغداد، تنتشر على جانبيه المراكز التجارية والفنادق. وتتوسط الحيّ ساحة النصر، التي تعتبر أشهر مراكز بغداد الطبية باحتوائها على مئات العيادات الطبية والمختبرات الصحية والصيدليات.
فضلاً عن هذا، تعتبر البتاويين مركزاً للمطابع وفيها عدد من المؤسسات الصحافية، بالإضافة إلى ورش صناعية مختلفة اتخذت من هذا الحيّ الواسع مركزاً لها، كورش الألمنيوم والزجاج.
كلّ هذا يتطلّب جهوداً أمنية كبيرة، وهو ما يجعل من مهمة قوات الأمن في هذا الحي "صعبة" بحسب ضابط شرطة عمل في وقت سابق ضمن الرقعة الجغرافية للبتاويين. الضابط الذي طلب عدم الكشف عن هويته في حديثه إلى "العربي الجديد" يكشف أنّ "الأوكار المنتشرة في عدة مناطق في بغداد، ومنها البتاويين، ليس من السهل اختراقها أو القضاء عليها، كونها على ارتباط بجهات مسلحة". يفسر: "عناصر من مليشيات متنفذة يديرون شبكات للمخدرات والدعارة والخطف وغيرها من العمليات. حين تتلقى الأجهزة الأمنية أمراً بالمداهمة في هذه المنطقة فإنّ المكان المقصود لا بدّ من أن يكون غير تابع لهذه المليشيات".
يشير الضابط إلى أنّ "الشخصيات التي تقف وراء هذه المجاميع الخارجة عن القانون معروفة. ليس هناك ما هو خفي، فجميع رجال الأمن، لا سيّما من عملوا في البتاويين، يعرفون هوية تلك المليشيات، ومن هي الشخصيات الحكومية والحزبية التي تدعم مختلف العصابات".
وللمفارقة، يتابع: "عدد غير قليل من السماسرة في تجارة الجنس وزعماء العصابات، ممن يسكنون هذا الحي هم مصدر ثقة عند رجال الشرطة، ويكفي أن يكفلوا شخصاً بضمانتهم لحسن سيرته وسلوكه ليخرج طليقاً في حال توقيفه بقضية ما". يشير الضابط إلى أنّ بعض الأوكار العاملة في الدعارة والمخدرات والتزوير، محميّة من قبل رجال الأمن أنفسهم، مؤكداً على أنّ "ضعاف النفوس في الشرطة يوفرون الحماية لبعض هذه الشبكات بمقابل مادي".
اقــرأ أيضاً
أهل الحيّ
السكان الأصليون للبتاويين غادر معظمهم الأزقة التي تحولت إلى أوكار لممارسة أعمال وصفوها بأنّها لا تمتّ بصلة لهذا الحي البغدادي العريق، مشيرين إلى أنّ الحي بدأ منذ نحو عشرين عاماً يتغير بشكل ملحوظ، حتى باتت تطلق عليه أوصاف "لاأخلاقية" بحسب علي الربيعي.
الربيعي المولود في البتاويين عام 1969، يقول إنّ عائلته سكنت هذا الحي منذ أربعينيات القرن الماضي، لكنّه اضطر قبل ثلاثة أعوام إلى بيع منزل العائلة والسكن في حي آخر، مشيراً في حديثه إلى "العربي الجديد" إلى أنّ السكن في حيّه القديم لم يعد ممكناً بسبب "تحول الكثير من البيوت القريبة من بيتي إلى أوكار دعارة وأعمال مشبوهة".
يوضح الربيعي أنّه تشاجر مرات عديدة مع مخمورين ومتعاطي مخدرات: "إنّهم يتحرشون بنساء المنطقة أثناء خروجهن إلى السوق أو العمل. أيضاً أجدهم نائمين أمام بيتي أو بيوت جيراني بعد فقدهم الوعي من جراء تناول المخدرات أو المشروبات المسكرة، فضلاً عن حفلات ماجنة تقام ليلاً باستمرار، في بيوت مجاورة لبيتي".
يؤكد أنّه تلقى تهديداً بالقتل إن استمر في تقديم شكاوى إلى جهات أمنية وسياسية: "التقيت بمسؤولين كبار في الحكومة والأجهزة الأمنية، أوصلت إليهم ما نعانيه كسكان أصليين لهذا الحي، وعرفت أنّ غيري الكثير من سكان الحي قدموا شكاوى مماثلة. وكان الرد أنّ القوات الأمنية تمرّ بظروف صعبة بسبب الإرهاب، لكنّها تعمل وفق خطط خاصة للقبض على رؤوس هذه الشبكات". يتابع: "وصلني مغلف وجدته مرمياً من خلف باب بيتي، يطالبني بالسكوت، وكان معه رصاصة مسدس (تقنية معروفة في العراق وتعني تهديداً جدياً بالقتل)".
الكثير من العراقيين يتجنبون المرور بأزقة حي البتاويين، ولهم أسباب مختلفة. عبد الناصر الحلفي يقول إنّه بالرغم من عمله داخل الحيّ لكنّه لا يبتعد أكثر من مقر عمله. يعمل الحلفي في مركز طبي بساحة النصر، الواقعة داخل حي البتاويين، ويقول: "أعلم شيئاً مما يدور في أزقة بالحيّ، لكنّي أخاف المرور فيها، إنّها تثير الخوف لديّ، هناك عصابات وقد يتعرض الشخص للنشل خصوصاً في المساء".
الحلفي الذي يعمل في ساحة النصر منذ أكثر من عشرة أعوام يقول إنّ بعض أزقة هذا الحي الخطيرة يتعرض الداخل إليها للمساءلة إن كان غريباً: "حاولت اختصار الطريق ذات شتاء ومررت بزقاق، فأوقفني شابان واستفسرا عن غايتي، وتأكدا من أنّي قصدت اختصار المسافة لا أكثر فسمحا لي بالمرور".
أما نبيل صالح (29 عاماً) الذي يعمل في شركة سياحية قريبة، فيقول إنّه يخشى على سمعته إن دخل في تلك الأزقة، موضحاً "بالرغم من أنّ سلوكها يختصر طريق ذهابي ومجيئي من الشركة وإليها، لكنّي لا أمرّ فيها، فغالباً ما تكثر أوكار الدعارة فيها. أخشى أن يراني أحدهم وأنا داخل إليها وقد يسيء الظن بي".
اقــرأ أيضاً
يتجنب كثير من العراقيين دخول حيّ البتاويين الذي يقع وسط واحدة من أكثر مواقع العاصمة بغداد حيوية. بعضهم يخشى على حياته من الخطف أو الاعتداء، والبعض الآخر يخشى على سمعته، إن شوهد هناك.
وبالرغم من أنّ أزقة معدودة هي ما توصف بـ"المشبوهة" و"الخطرة" و"الموبوءة" لكنّ تلك الصفات بدأت تنتقل شيئاً فشيئاً إلى أزقة أخرى في هذا الحيّ الواسع. هنا تجد متسكعين نائمين على الأرصفة فقدوا وعيهم بعد جرعة كبيرة من المسكرات والمخدرات، وسماسرة يصطفّون للغريب يحاولون معرفة نيّته.
في بعض أزقة هذا الحيّ كلّ ممنوع تجده مثل المخدرات، وبيوت الدعارة، وبيع الأعضاء البشرية، والقتلة المأجورين، وعصابات الثأر والانتقام، وأوكار عصابات الخطف، ومراكز شبكات التسول، والمزورين المحترفين، حتى بات الحيّ "جمهورية" قائمة بذاتها وسط العاصمة.
تاريخ راقٍ
كلّ ذلك جعل شهرة الحيّ ذائعة في مختلف أرجاء البلاد، وأجبر سكانه الأصليين على تركه مرغمين. فالبتاويين كان في سنين خلت أحد الأحياء الأرستقراطية في بغداد، إذ يسكنه كبار موظفي الحكومة وقادتها وكبار التجار والأثرياء. ولدت في هذا الحيّ شخصيات مهمة، من بينها المعمارية المعروفة الراحلة زها حديد، كما كان الرئيس العراقي الراحل عبد الكريم قاسم أحد سكانه.
الحيّ كان وما زال من المواقع المهمة في بغداد، إذ يتصل بعدة أحياء تحوي دوائر ووزارات حكومية، وشوارع حيوية، وفنادق. كذلك، هو مطلّ على نهر دجلة، من خلال شارع أبو نؤاس أحد أبرز شوارع بغداد، وأكثرها شهرة.
حيّ البتاويين سمّي كذلك نسبة إلى مزارعين نزحوا من قرية لبت في محافظة ديالى، وكانوا أول من أقاموا فيه مطلع القرن التاسع عشر. وبمرور الأعوام، بات البتاويين من أرقى أحياء بغداد، فسكن فيه عدد كبير من العائلات المسيحية واليهودية، قبل أن يتعرض اليهود إلى حملة تهجير.
ما زال مئات البيوت التي يعود تاريخ بنائها إلى مطلع القرن العشرين وصولاً إلى منتصفه قائمة في المكان. بعضها يستغل كسكن وقسم آخر تحول إلى ورش ومخازن ومطابع ومراكز أعمال مختلفة.
بيوت دعارة
تعددت أسباب تحول الحيّ من حال راقية إلى سيئة ومشبوهة وخطيرة، بحسب أحمد العبيدي، وهو عقيد متقاعد عمل في سلك الشرطة العراقية. يقول إنّ موقع الحيّ أهم عامل ساعد في هذا التحول. عمل العبيدي في تسعينيات القرن الماضي ضمن فرق مختصة لملاحقة عصابات السطو والتحقيق في قضايا دعارة، وهو ما مكّنه من امتلاك معلومات مهمة حول تلك المشاكل التي يصفها بأنّها "خرجت اليوم عن نطاق السيطرة".
يشير العبيدي في حديثه إلى "العربي الجديد" إلى أنّ البتاويين بدأ منذ التسعينيات في إيواء أوكار عصابات متخصصة بجرائم مختلفة، بعدما كان يقتصر على أوكار الدعارة. يوضح أنّ الدعارة في البتاويين بدأت تنتشر في سبعينيات القرن الماضي، وكانت قليلة جداً ومقتصرة على أزقة قريبة من منطقة الباب الشرقي، وأخرى قريبة من شارع أبو نؤاس.
يضيف أنّ تحول المنطقة إلى مراكز لمختلف الأوكار تسببت به عدة عوامل، منها طبيعة المنطقة الجاذبة للسياحة، لا سيما أنّ أحد أبرز معالمها هو شارع أبو نؤاس الشهير بكورنيشه الكبير المطلّ على نهر دجلة، وانتشار ملاهٍ ليلية في المنطقة، ومحال متخصصة بتقديم المشروبات الكحولية، وعدد كبير من الفنادق السياحية. يعلّق: "تلك الأسباب كانت وراء ظهور بيوت للدعارة منذ السبعينيات، وهي التي تستغل المسافرين إلى بغداد من المحافظات الأخرى الذين ينزلون في فنادق داخل المنطقة. وتستغل وجود الملاهي الليلية ودور السينما التي يرتادها الكثير من الشباب. ويغري السماسرة الشباب ويأخذونهم إلى بيوت الدعارة تلك".
هوية جديدة
يتابع العبيدي أنّ سنوات التسعينيات وما رافقها من حصار اقتصادي عانت منه البلاد وتسبب في نشوء طبقة فقيرة جداً، مع ارتفاع تكلفة العيش مقابل ضعف المداخيل، ساهمت في تبديل هوية الحيّ مرة جديدة. فقد ظهرت فيه عصابات متخصصة بالسرقة والتزوير، وانتشر بيع الحبوب المخدرة. وبات هذا الحيّ أحد أبرز الأوكار لهذه الجرائم، والسبب هو موقعه مجدداً.
مع الغزو الأميركي للبلاد عام 2003 وانعدام الأمن، وجدت العصابات في الحيّ فرصة للظهور العلني، حتى تحوّل إلى مكان خطير فعلاً. ظهرت حينها عصابات مسلحة جعلت من بعض الأزقة أماكن ممنوع الدخول إليها. تبدّلت الحال بعد تشكيل قوات أمنية جديدة، وبات بالإمكان التجول داخل تلك الأزقة، لكن مع أخذ الحذر، فقد يتعرض المار للنشل، لا سيما في الليل.
العبيدي الذي تقاعد من العمل عام 2000، يقول إنّه على اطلاع بما يجري من أوضاع أمنية، وتربطه صلات بضباط عاملين في سلك الشرطة. يتابع أنّ "العمل في سلك الشرطة والأمن بشكل عام في العراق أصبح يمثل خطراً أكبر مما يوصف. اليوم، المجرم صاحب سلطة أعلى من رجل الأمن، فكيف يمارس رجل الأمن مهمته ويلاحقه ليلقي القبض عليه"؟ يوضح: "توسعت في البتاويين اليوم أوكار الدعارة، وباتت تعمل بشكل علني. أيضاً، أصبح الحيّ مقراً لأوكار تجارة المخدرات من بيع وتعاطٍ، وأوكار شبكات المتسولين، والخاطفين، والقتلة المأجورين، وعصابات التزوير".
يتابع أنّ "شبكات متخصصة بالتسول بات مقرها في البتاويين. تعتمد هذه الشبكات على نساء مسنّات وشابات وأطفال من كلا الجنسين ورجال بمختلف الأعمار. كذلك فيه عصابات مأجورة تقدم أيّ خدمة من قتل وخطف ومداهمات".
مهمة أمنيّة صعبة
في البتاويين تتجول سيارات الشرطة بين الأزقة، فضلاً عن انتشار المفارز الأمنية في مواقع ثابتة داخل مواقع رئيسية في الحيّ وفي محيطه، إذ يحتل المكان موقعاً حساساً وهاماً، لا سيما أنّه قريب من المنطقة الخضراء، مقر الحكومة العراقية ولا يفصل بينهما سوى نهر دجلة. كذلك، يتصل الحيّ بساحة التحرير أبرز ساحات بغداد وأكثرها شهرة، وهي مركز التظاهرات عادة.
يقسم البتاويين شارع السعدون الذي يعتبر واحداً من أشهر وأعرق شوارع بغداد، تنتشر على جانبيه المراكز التجارية والفنادق. وتتوسط الحيّ ساحة النصر، التي تعتبر أشهر مراكز بغداد الطبية باحتوائها على مئات العيادات الطبية والمختبرات الصحية والصيدليات.
فضلاً عن هذا، تعتبر البتاويين مركزاً للمطابع وفيها عدد من المؤسسات الصحافية، بالإضافة إلى ورش صناعية مختلفة اتخذت من هذا الحيّ الواسع مركزاً لها، كورش الألمنيوم والزجاج.
كلّ هذا يتطلّب جهوداً أمنية كبيرة، وهو ما يجعل من مهمة قوات الأمن في هذا الحي "صعبة" بحسب ضابط شرطة عمل في وقت سابق ضمن الرقعة الجغرافية للبتاويين. الضابط الذي طلب عدم الكشف عن هويته في حديثه إلى "العربي الجديد" يكشف أنّ "الأوكار المنتشرة في عدة مناطق في بغداد، ومنها البتاويين، ليس من السهل اختراقها أو القضاء عليها، كونها على ارتباط بجهات مسلحة". يفسر: "عناصر من مليشيات متنفذة يديرون شبكات للمخدرات والدعارة والخطف وغيرها من العمليات. حين تتلقى الأجهزة الأمنية أمراً بالمداهمة في هذه المنطقة فإنّ المكان المقصود لا بدّ من أن يكون غير تابع لهذه المليشيات".
يشير الضابط إلى أنّ "الشخصيات التي تقف وراء هذه المجاميع الخارجة عن القانون معروفة. ليس هناك ما هو خفي، فجميع رجال الأمن، لا سيّما من عملوا في البتاويين، يعرفون هوية تلك المليشيات، ومن هي الشخصيات الحكومية والحزبية التي تدعم مختلف العصابات".
وللمفارقة، يتابع: "عدد غير قليل من السماسرة في تجارة الجنس وزعماء العصابات، ممن يسكنون هذا الحي هم مصدر ثقة عند رجال الشرطة، ويكفي أن يكفلوا شخصاً بضمانتهم لحسن سيرته وسلوكه ليخرج طليقاً في حال توقيفه بقضية ما". يشير الضابط إلى أنّ بعض الأوكار العاملة في الدعارة والمخدرات والتزوير، محميّة من قبل رجال الأمن أنفسهم، مؤكداً على أنّ "ضعاف النفوس في الشرطة يوفرون الحماية لبعض هذه الشبكات بمقابل مادي".
أهل الحيّ
السكان الأصليون للبتاويين غادر معظمهم الأزقة التي تحولت إلى أوكار لممارسة أعمال وصفوها بأنّها لا تمتّ بصلة لهذا الحي البغدادي العريق، مشيرين إلى أنّ الحي بدأ منذ نحو عشرين عاماً يتغير بشكل ملحوظ، حتى باتت تطلق عليه أوصاف "لاأخلاقية" بحسب علي الربيعي.
الربيعي المولود في البتاويين عام 1969، يقول إنّ عائلته سكنت هذا الحي منذ أربعينيات القرن الماضي، لكنّه اضطر قبل ثلاثة أعوام إلى بيع منزل العائلة والسكن في حي آخر، مشيراً في حديثه إلى "العربي الجديد" إلى أنّ السكن في حيّه القديم لم يعد ممكناً بسبب "تحول الكثير من البيوت القريبة من بيتي إلى أوكار دعارة وأعمال مشبوهة".
يوضح الربيعي أنّه تشاجر مرات عديدة مع مخمورين ومتعاطي مخدرات: "إنّهم يتحرشون بنساء المنطقة أثناء خروجهن إلى السوق أو العمل. أيضاً أجدهم نائمين أمام بيتي أو بيوت جيراني بعد فقدهم الوعي من جراء تناول المخدرات أو المشروبات المسكرة، فضلاً عن حفلات ماجنة تقام ليلاً باستمرار، في بيوت مجاورة لبيتي".
يؤكد أنّه تلقى تهديداً بالقتل إن استمر في تقديم شكاوى إلى جهات أمنية وسياسية: "التقيت بمسؤولين كبار في الحكومة والأجهزة الأمنية، أوصلت إليهم ما نعانيه كسكان أصليين لهذا الحي، وعرفت أنّ غيري الكثير من سكان الحي قدموا شكاوى مماثلة. وكان الرد أنّ القوات الأمنية تمرّ بظروف صعبة بسبب الإرهاب، لكنّها تعمل وفق خطط خاصة للقبض على رؤوس هذه الشبكات". يتابع: "وصلني مغلف وجدته مرمياً من خلف باب بيتي، يطالبني بالسكوت، وكان معه رصاصة مسدس (تقنية معروفة في العراق وتعني تهديداً جدياً بالقتل)".
الكثير من العراقيين يتجنبون المرور بأزقة حي البتاويين، ولهم أسباب مختلفة. عبد الناصر الحلفي يقول إنّه بالرغم من عمله داخل الحيّ لكنّه لا يبتعد أكثر من مقر عمله. يعمل الحلفي في مركز طبي بساحة النصر، الواقعة داخل حي البتاويين، ويقول: "أعلم شيئاً مما يدور في أزقة بالحيّ، لكنّي أخاف المرور فيها، إنّها تثير الخوف لديّ، هناك عصابات وقد يتعرض الشخص للنشل خصوصاً في المساء".
الحلفي الذي يعمل في ساحة النصر منذ أكثر من عشرة أعوام يقول إنّ بعض أزقة هذا الحي الخطيرة يتعرض الداخل إليها للمساءلة إن كان غريباً: "حاولت اختصار الطريق ذات شتاء ومررت بزقاق، فأوقفني شابان واستفسرا عن غايتي، وتأكدا من أنّي قصدت اختصار المسافة لا أكثر فسمحا لي بالمرور".
أما نبيل صالح (29 عاماً) الذي يعمل في شركة سياحية قريبة، فيقول إنّه يخشى على سمعته إن دخل في تلك الأزقة، موضحاً "بالرغم من أنّ سلوكها يختصر طريق ذهابي ومجيئي من الشركة وإليها، لكنّي لا أمرّ فيها، فغالباً ما تكثر أوكار الدعارة فيها. أخشى أن يراني أحدهم وأنا داخل إليها وقد يسيء الظن بي".