جنازتان ورئيسان في مصر

27 يناير 2015

مرسي وفاتن حمامة ومريم فخر الدين ومبارك

+ الخط -

أقصد جنازتي فاتن حمامة ومريم فخر الدين، والرئيسين حسني مبارك ومحمد مرسي.

كانت فاتن حمامة حقيقة، كما يقول يوسف إدريس، تعيش زمانها حتى النخاع، أحبت ودافعت عن حبها، على الرغم من اختلاف الأديان، وسافرت وكسبت من عملها في التمثيل ولعبت البريدج، وكانت في التمثيل وكأنها تحِنّ أن تكون مكسورة الجناح، كأي مصرية في قرية أو نجع.

كانت مريم فخري الدين لها هذا الجمال الهادئ المكتفي بنفسه، والمنعزل، جمال له رائحة ارستقراطية (هي إنجي)، على الرغم من أنها، أيضاً، كانت في حواراتها ومسامراتها المعلنة للخاصة، كثيراً ما تخرج عن كل الخطوط الحمراء والمتخيلة (لإنجي المتخيلة لدينا). لم تكن تملك دبلوماسية فاتن، ولا حنكتها في التصرف، على الرغم من أن أمها أوروبية الأصل. كانت تريد أن تكون واضحة وبقسوة، ولا تعمل حسابا للمحاذير الاجتماعية في الكلام كفاتن، وخصوصاً حينما كبرت وابتعدت عنها الأضواء والأدوار، وظلت فاتن كما هي نجمة مطلوبة حتى النهاية (كانتا زوجتين لأخين)، وهذا كان يؤلمها في أواخر عمرها، وتصرح تنفيساً عن حالها: (هي يعني وحدها الهانم وإحنا الهلافيت؟)، ولذا، أخرجتها الجماعة الفنية من قائمة الاعتماد، وحافظ الوسط الفني على (أيقونية فاتن).

كانت فاتن هي المعتمدة (الأولى) بحق المحافظة على المقام الرفيع في الفن، ومريم هي الشاردة (ولو لفظيا فقط) عن شرف هذا الاعتماد. سخرت مريم من هذا المقام الرفيع (في أحاديثها وباحت به علناً في آخر عمرها). كسرت بذلك من إطار دبلوماسية الفتاة البرنسيسة (إنجي)، بينما حافظت فاتن على هيبة ذلك الإطار، حتى في عزلتها واكتفائها. كان رصيدها الأول من النجومية يكفيها، وظلت (مريم) تقوض في إطار الأنثى الخجول الذي كانت فيه، حتى صارت مضرباً للضحك في كل حديثٍ، يعلن عنه في أواخر سنواتها، وظلت الأدوار تذهب إلى فاتن في عقر دارها، فتختار ما تختار وتترك ما لا يناسبها في اغتناء شديد واكتفاء. ولذا، حينما ماتت (مريم)، كانت جنازتها خالية من أهل الفن، ولا حتى اقتربت لا من قريب، أو بعيد، من اهتمام العامة أو الشعب البسيط والبسطاء، كانت قد استهلكت، عامدة متعمدة، كل رصيدها عند أهل الفن والناس (فإنجي هي رصيد زمن إنجي)، ومعظم أهل إنجي باشوات، إما رحلوا عن مصر، أو صاروا رجال أعمال لهم أنياب بعدما (تأسّد) أولادهم وأحفادهم. عكس جنازة فاتن حمامة التي خرج لها الناس والبسطاء، وكأنها كانت حانية على حالتهم البسيطة والمتواضعة. كانت الصورة جلية وواضحة (وهذه نعمة الفن) رصيد يبقى طويلا لدى الناس.

يوم رحيل مبارك، خلع البسطاء الأحذية في وجهه في ميدان التحرير. يوم رحيل مرسي بكى البسطاء حقيقة (على شبيههم) الذي صار رئيسا، وتذكّر اللئام أن والده كان (عيّاطا). من أزاح مبارك هي أرواح الشعب الطيب البسيط ودموعه. ومن أزاح مرسي هي جنازير الدبابة وأسلحة الحرس الجمهوري. ولذا، في رحيل مبارك رقص البسطاء والطيبون، مثل مجانين، في الميادين حتى الصباح. ويوم إزاحة محمد مرسي، نام الطيبون كمداً من حرقة الخيانة.

بعد أربع سنوات، يخرج مبارك براءة، ولم نجد أمام مشفاه أو فندقه الرسمي سوى بضع نساء وبنات يرتدين نظارات سوداء، للتمويه ولمداراة وجوههن الحقيقية أمام من يعرفهن، وأطلقن الزغاريد والإشارات البذيئة (وهن معروفات لخاصة تلك المهنة التي استحدثت مؤخرا كندابات أو مزغردات بالأجر في حقل السياسة، كما كان يحدث أيام مكائد منيرة المهدية لأم كلثوم). أما مرسي، فعلى الرغم من أنف الجميع، من 18 شهراً، نرى البسطاء أنفسهم في الشوارع من دمياط شمالاً حتى أسوان جنوباً بالآلاف في مسيرات، على الرغم من القتل والاعتقال، بينما أغلق العسكر ميدان التحرير بالمدرعات والدبابات والأسلحة. وهذا فرح خاص بالطيبين، سيستمر طويلاً في وجدان هذا الشعب الطيب، على الرغم من أنف المدفع والدبابة.