- مرحبا بك مفتاح. آيش جاء بك في هذا الحرّ القاتل؟ دعني أقيِّل.
- مرحبًا أسعد. جئت لأمرٍ هام. لولا أهميته ما قَدِمت في مثل هذا الوقت.
يعرف أهالي بلدتنا أنَّ مفتاحًا معتوه خالصٌ. تعوَّدوا على نوباته من سنين. في الصيف، يَبيع الفولَ المَقلي بعد العصر. يجوب الشوارع بِقُفَّتِه الصغيرة. مقدار كوب شاي فولاً بمائة مليم. يَضحك مع الناس ويَضحكون منه. تدور نكاتُهم الساخرة حول معتوه البلدة الثاني. وبعد أن يُفرِغ قُفته، يسارع إلى حفلات الأعراس مصاحبًا الفرقة النحاسية، راقصًا بين صَفَّيْها. في سائر فصول السنة، يشهد الجنائز، ويعدد مناقب الموتى. في المساء، يطوف بين المقاهي لبَيع البيض المسلوق.
بدا لي مفتاح هذه المرة مختلفًا عمّا عَهدته. كأنه في أتم مداركه العقلية. هل أعاد إليه الحرُّ عقلَه؟ هل افتقدَه يومًا؟ما الذي ينوي فعله؟
أسعد. سأبوح لك بسر لا يعرفه أحد. في الحقيقة، أنا لست معتوهًا. أتصنَّعُ الجنون لأسباب سياسية.
- ماذا تقول يا مفتاح! جنون لأسباب سياسية؟ أهذه طلعةٌ من طلعاتك الجديدة؟ لا تُجَنِّني معك. يكفي البلدة مجنونان. فيهما بَرَكة وزيادة.
- كنت طفلا عاديًا. نشأتُ في بيتنا المتواضع مع إخوتي. وذهبت إلى المدرسة كأقراني. أحب وطني وأتأثر عندما نؤدي تحية العَلَم كل صباحٍ، على أنغام النشيد الرسمي. لما بلغت الخامسةَ عشرَ، مات أخي في ظروف غامضة، بعد أن اعتقلتْه الشرطة المختصة. صَدمتني وفاتُه المفاجئة. كلُّ جُرْمِه أنه حضر درسًا قيل إنه سرِّي. نظمه وقتها أستاذ الفلسفة في بيته وشرح فيه أقصوصة "الملك"، لزكريا تامر. كان اقتياد أخي وثلاثة تلاميذ من المعهد مشهدًا مرعبًا. حاولت أن أنسى غيابه. في الأشهر الأولى، بكيت كثيرًا لفقدانه. ثم التجأت إلى الضحك والإضحاك. وتوالت زياراتي لطبيب الأعصاب. أعجبتني اللعبة: أُضحكُ الناس ويَضحكون مني. أكسِب شفقتهم، وقد يمنحني أحدهم بضعة مليمات.
- أهذه لعبة؟
- نعم. قاسية. فقد انقطعتُ عن الدراسة بسبب الأدوية القويّة التي منعتني من المواظبة. ما نسيت وفاة شقيقي وظروفَها الغامضة. أدمنتُ على حيلة العَتَه التي صارت تُسعدني، وتشكِّل مصدرَ رزقي. ولولاها ما بعت فولاً ولا بيضًا. هل تدري لمَ اخترتكَ أنتَ لأبوح بسري؟
- لا يا مفتاح. بالضبط، هذا ما أتساءل عنه الآن.
- أعرف أنك تعمل في إذاعة عربيّة. ماذا لو اقترحتَ على زملائك القيام بتقرير صحفي حول علاقة المجانين بالمخابرات. هل تعلم أنَّ نِصفهم يعلمون جواسيس لصالح الدولة ويَمدونها بالتقارير. جلُّ المجانين عُقلاء يخدِمون "اللجنة".
- مهنتي في الإذاعة مُعلِّق رياضي. لا شأن لي بصحافة الاستقصاء ولا بقسم السياسة. لا أفهم شيئًا خارج الرياضة.
- أسعد. هذه ليست سياسة. هذا تاريخ. لا بد من فَضحه. لما بلغتُ العشرين، اتصلت بي "اللجنة"، كَلفتها شعبة الحِزب بطلب المساعدة مني على تلقط أخبار اجتماعات "أحباء المكتبة والكتاب"...
- "لجنة" من الشعْبَة؟ كيف أجبتَها؟
- بتصنع الجنون طبعًا. وَعدتني بتوظيفي صبيَّ (ديليفرير) لدى متجر لبيع الفواكه الجافة حتى أدخل بيوت الناس وأتلصص على أخبارهم. أغرقتُ في ضحكٍ مُصطَنَعٍ. هدَّدني أحدُهم بمنعي من المشاركة في الأعراس. أغرقتُ في الضحك أكثر فأكثر. "وإلا سيكون مصيرُك الحبس في مَصحة عقلية"، أضاف حانقًا. أنا مسجون في مصحة مع المجانين الحقيقين؟ مستحيل. زدتُ من حدة الضحك والهذيان. تَركتني اللجنة.
- أولاً، لا يدخل هذا الموضوع في نطاق عملي الرياضي. ثانيًا، لا أريد أن أتوَرَّط. أنا أيضا زارتني اللج.....
- بعد سنتيْن، اتصلت بي اللجنة من جديد. هذه المرة، حضر معها طبيبٌ. بدت مُصرَّة على توظيف الجميع ضد الجميع، وتسليط أي مواطن ضد أي مواطن. أرادوا التأكد النهائي من استيلاء المرض على أعصابي. أحسستُ بالخطر. بالغت في القهقهة الهستيرية. استحضرت أجمل نوبات جنوني. تفانيت في استخدام مواهبي، كأصدق ما يكون معتوه. أسعفتني صورة أخي مقتادًا في إقناع "اللجنة" بصدقي. كنت أقهقه وأستعيد جنازَةَ أخي، بعد أن مُنِعنا من إشهارها. كاد ضحكي أن ينقلب نحيبًا وأستسلم. تماسكتُ بشدة.
- لحسن حظك يا مفتاح. ما كل مرة تَسلم الجرة مع هؤلاء. الموضوع حساس. أنا أيضًا ورَائي عائلة.
- آلة القمع لديهم لا ترحم. تعود اللجنة كل سنتين لمعاودة الفحص. لاتستغني عن خدمة أحدٍ. باءت زياراتهابنفس فشل الأولى. اضطررت خلال الأشهر الفاصلة بينها أن أطور مظاهر جنوني وأتقنها أكثر. أبديت للناس تدهور حالتي العقلية وحتى الجسدية. اضطررت أن أمشي عريانَ في الشوارع، أن أقبِّل أكباشَ العيد من أفواهها. تلقيت أفظع شتائم الصغار والكبار. تحملت ضربهم وسخريتهم. تألقت في دوري حتى لا أكمل حياتي جاسوسًا. كنت أعول نفسي وأسرتي بعرق جنوني...
- ألم تلمس من تعليقاتي الإذاعية أنني أمقتُ الرياضة، وأنني أكرِهتُ على أدائها بأمرٍ من "اللجنة". أجبرتني على تخدير الشعب بأخبارها وهددتني باقتياد أخي...
* إلى جانب أعماله البحثية والترجمية، يكتب الأكاديمي التونسي المقيم في فرنسا، نجم الدين خلف الله (1970)، القصّة القصيرة. في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، أصدر باكورته السردية "قلادة من الضفّة الثانية" (منشورات سوتوميديا)، وضمّت 24 قصّةً قصيرةً تلتقي في مقاربتها هموم الإنسان العربي المعاصر.