مع شيوع نبأ رحيل الممثل المصري جورج سيدهم، في 27 مارس/آذار 2020، تنكشف، مرة أخرى، أزمة الأرشفة الموثّقة في المكتبة العربية، في جزئها السينمائيّ. موقعان اثنان، هما "ويكيبيديا" و"السينما.كوم"، يختلف أحدهما عن الآخر في تحديد يوم ولادته. فالأول يذكر أنّ الراحل مولودٌ في 28 مايو/أيار 1938، بينما يُشير الثاني إلى أنّ تاريخ الولادة هو 7 يونيو/حزيران من العام نفسه. هذا حاصلٌ أيضاً مع صديقه الراحل الضيف أحمد، إذْ يُحدّد الأول تاريخ وفاته في 16 إبريل/نيسان 1970، بينما يلغي الثاني 10 أيام منها.
هذا غير عابر. الأرشفة الموثّقة علمياً غائبة في المكتبة السينمائية العربية. جورج سيدهم، أحد أبرز "نجوم" الكوميديا المصرية والعربية، المتعاون مع الثنائي الضيف أحمد (1936 ـ 1970) وسمير غانم (15 يناير/كانون الثاني 1937)، يكاد "يختفي" من أرشيفٍ غير حاضرٍ على شبكة الإنترنت، وغير جاذبٍ لبعض الموثوق به في الأخبار المنشورة عن رحيله، وهي أخبار مقتضبة أصلاً. أما كتاب "الكوميديا في السينما العربيّة" (سلسلة "الفن السابع" الصادرة عن "المؤسّسة العامة للسينما" في دمشق، 2002) لمحمد منصور، الذي يرتكز على "رؤية نقدية تاريخية" لهذا النوع السينمائيّ في العالم العربي، فيمرّ سريعاً على "ثلاثيّ أضواء المسرح"، رغم كثرة الأفلام والأعمال الأخرى، التي يُشارك فيها الراحل مع زميليه.
يصعب تحديد هذا "الغياب"، رغم أنّ اشتغالهم الجماعي، الصانع لهم شهرةً معروفة ومُستَحَقّة، حاصلٌ في زمنٍ شاهدٍ على أكثر من تأسيسٍ في صناعة السينما في مصر والعالم العربي. الأعمال كلّها تُختَزل في ثلاثيّ، يخرج سمير غانم منه وعليه، بعد رحيل الضيف أحمد، ويتفرّد بنجومية غير متمكّنة من إثراء الكوميديا، وبلورة أفقها وفضائها ومساراتها، لاكتفائه بحضورٍ يكفل استمراره في العمل، ويمنحه مزيداً من شهرةٍ، مُعطّلة نقدياً ومرتبكة شعبياً، بعد سنين من تمدّد أفقيّ لا عموديّ. أما جورج سيدهم، فيغوص في ما يُشبه الانزواء، وإنْ يُشارك في أعمالٍ يتوقّف عن السينمائيّ منها منتصف تسعينيات القرن الـ20. ثقل المرض، لاحقاً، يؤكّد انزواءه الفني أكثر فأكثر، بينما العزلة الاجتماعية تعثر على متنفّس قليل للغاية، بين فينةٍ وأخرى.
اقــرأ أيضاً
رحيل الضيف أحمد باكراً يضع حدّاً لتجربة العمل الجماعي لهذا الثلاثيّ في السينما المصرية. تجربة متمثّلة بانخراطٍ في أفلامٍ تستجيب إلى مقولة تقليدية في وصف الكوميديا: "تمثيلية هزلية تُثير الضحك". فرغم أنّ للكوميديا والضحك إمكانيات جمّة في النقد والتفكيك والسخرية والتعرية، في شؤون الحياة والاجتماع والعلاقات، يغلب على نشاط الثلاثيّ تلك الرغبة الجامحة في إثارة الضحك فقط، وإنْ يتضمّن الضحك أحياناً، ولو بشكلٍ مُبطّن وهادئ وبسيط، بعض هذا كلّه، مواربة على الأقلّ.
يُشير محمد منصور إلى أن "النجاح والاستمرار معاً" غير مُقيَّضَين للثلاثيّ (ص. 90)، رغم وفرة العمل في ستينيات القرن الـ20. مطلع سبعينيات القرن نفسه يشهد "بطولة" أولى لهم في فيلم "لسنا ملائكة" (1970) لمحمود فريد (1920 ـ 1988). قبله، هناك كمٌّ من الأدوار التي يُؤدّيها جورج سيدهم، يُحدِّد موقع "السينما.كوم" عددها بـ134، في أفلام ومسرحيات وفوازير ومسلسلات. لكنّ بعض تلك الأدوار تنفصل عن الكوميديا، فطالب الزراعة، الحاصل على بكالوريوس فيها، يمتلك حساسية الدراما والانفعالات المنبثقة من أعماق روح وذات، وملامح تُعينه على أن يخوض تجارب غير كوميدية بتمكّن حِرفيّ، أهمّ وأجمل من اختبارات سمير غانم فيها أيضاً.
"الجراج" (1995) لعلاء كريم (1947 ـ 2006) مثالٌ على ذلك، والفيلم آخر عمل سينمائيّ لسيدهم. مع هذا، يلفتُ حضور علاء ولي الدين (1963 ـ 2003) فيه انتباهاً إلى مرحلة وآلية اشتغال، إذْ تشهد تلك التسعينيات ولادة جيلٍ جديد من الكوميديين، سيكون لولي الدين، الراحل باكراً، دورٌ أساسيّ فيه، قبل أن يسطو محمد هنيدي (1965) ومحمد سعد (1968)، على نجومية تبدو سريعاً غير ملائمة لهما، أو بالأحرى يبدوان هما غير متمكّنين من الجمع فيها بين حِرفية أصيلة وفعل استعراضيّ مطلوب للنجومية. ستينيات القرن الـ20 هي أيضاً مرحلة تأسيسية لجيلٍ جديدٍ (حينها) من الكوميديين، يحاول عادل إمام (1940) تثبيت حضوره أثناءها، في "ظلّ" كبارٍ، أمثال فؤاد المهندس (1925 ـ 2006) وعبد المنعم مدبولي (1921 ـ 2006). ينجح إمام زمناً طويلاً في ذلك، قبل أفول براعته الكوميدية وقدراته الأدائية في الأعوام الفائتة، ويرافق تلك المرحلة باختباراتٍ مختلفة. في الوقت نفسه، يسعى الثلاثيّ إلى إيجاد موقع لكوميديا مبسّطة، تعتمد العمل الجماعي في تقديم "اسكتشاتها" الهزلية.
اقــرأ أيضاً
يُقال إنّ الكوميديا أو الملهاة "تمثيلية مسرحية ذات طبيعة خفيفة وملهية، ولعقدتها نهاية سعيدة". بعيداً عن كلّ تحليل لقولٍ كهذا، يرد في "المعجم الإنكليزي" (نقلاً عن كتاب محمد منصور، ص. 15)، يُشار إلى أنّ "الحضور الخفيف" لجورج سيدهم، أي غير المحمَّل بثقل الاجتماع والذات، والانقلابات والاضطرابات فيهما، يبقى أجمل تعبيرٍ عن معنى صافٍ للضحك البسيط والهادئ والمُسلّي، المبنيّ على معرفة وافية بأصوله، وأصول التمثيل. هذا من دون تجاوز إمكانيات أدائية له، غير المتاح له التعبير عنها كثيراً، لأسبابٍ يجب تحليلها في قراءة نقدية أعمق وأهدأ، يستحقّها الراحل.
مع هذا، فإنّ "النهاية" غير سعيدة: "تغييب" الحضور الأدائيّ الجميل لجورج سيدهم حاصلٌ، إلى حدّ كبير، في سيرته المهنية، والانفضاض "المزمن" عنه في عزلته وثقل مرضه قاسٍ، وإنْ يكن الانفضاض، في جانبٍ منه، نتاج رغبته هو في تمتين العزلة، كما يُقال.
هذا غير عابر. الأرشفة الموثّقة علمياً غائبة في المكتبة السينمائية العربية. جورج سيدهم، أحد أبرز "نجوم" الكوميديا المصرية والعربية، المتعاون مع الثنائي الضيف أحمد (1936 ـ 1970) وسمير غانم (15 يناير/كانون الثاني 1937)، يكاد "يختفي" من أرشيفٍ غير حاضرٍ على شبكة الإنترنت، وغير جاذبٍ لبعض الموثوق به في الأخبار المنشورة عن رحيله، وهي أخبار مقتضبة أصلاً. أما كتاب "الكوميديا في السينما العربيّة" (سلسلة "الفن السابع" الصادرة عن "المؤسّسة العامة للسينما" في دمشق، 2002) لمحمد منصور، الذي يرتكز على "رؤية نقدية تاريخية" لهذا النوع السينمائيّ في العالم العربي، فيمرّ سريعاً على "ثلاثيّ أضواء المسرح"، رغم كثرة الأفلام والأعمال الأخرى، التي يُشارك فيها الراحل مع زميليه.
يصعب تحديد هذا "الغياب"، رغم أنّ اشتغالهم الجماعي، الصانع لهم شهرةً معروفة ومُستَحَقّة، حاصلٌ في زمنٍ شاهدٍ على أكثر من تأسيسٍ في صناعة السينما في مصر والعالم العربي. الأعمال كلّها تُختَزل في ثلاثيّ، يخرج سمير غانم منه وعليه، بعد رحيل الضيف أحمد، ويتفرّد بنجومية غير متمكّنة من إثراء الكوميديا، وبلورة أفقها وفضائها ومساراتها، لاكتفائه بحضورٍ يكفل استمراره في العمل، ويمنحه مزيداً من شهرةٍ، مُعطّلة نقدياً ومرتبكة شعبياً، بعد سنين من تمدّد أفقيّ لا عموديّ. أما جورج سيدهم، فيغوص في ما يُشبه الانزواء، وإنْ يُشارك في أعمالٍ يتوقّف عن السينمائيّ منها منتصف تسعينيات القرن الـ20. ثقل المرض، لاحقاً، يؤكّد انزواءه الفني أكثر فأكثر، بينما العزلة الاجتماعية تعثر على متنفّس قليل للغاية، بين فينةٍ وأخرى.
رحيل الضيف أحمد باكراً يضع حدّاً لتجربة العمل الجماعي لهذا الثلاثيّ في السينما المصرية. تجربة متمثّلة بانخراطٍ في أفلامٍ تستجيب إلى مقولة تقليدية في وصف الكوميديا: "تمثيلية هزلية تُثير الضحك". فرغم أنّ للكوميديا والضحك إمكانيات جمّة في النقد والتفكيك والسخرية والتعرية، في شؤون الحياة والاجتماع والعلاقات، يغلب على نشاط الثلاثيّ تلك الرغبة الجامحة في إثارة الضحك فقط، وإنْ يتضمّن الضحك أحياناً، ولو بشكلٍ مُبطّن وهادئ وبسيط، بعض هذا كلّه، مواربة على الأقلّ.
يُشير محمد منصور إلى أن "النجاح والاستمرار معاً" غير مُقيَّضَين للثلاثيّ (ص. 90)، رغم وفرة العمل في ستينيات القرن الـ20. مطلع سبعينيات القرن نفسه يشهد "بطولة" أولى لهم في فيلم "لسنا ملائكة" (1970) لمحمود فريد (1920 ـ 1988). قبله، هناك كمٌّ من الأدوار التي يُؤدّيها جورج سيدهم، يُحدِّد موقع "السينما.كوم" عددها بـ134، في أفلام ومسرحيات وفوازير ومسلسلات. لكنّ بعض تلك الأدوار تنفصل عن الكوميديا، فطالب الزراعة، الحاصل على بكالوريوس فيها، يمتلك حساسية الدراما والانفعالات المنبثقة من أعماق روح وذات، وملامح تُعينه على أن يخوض تجارب غير كوميدية بتمكّن حِرفيّ، أهمّ وأجمل من اختبارات سمير غانم فيها أيضاً.
"الجراج" (1995) لعلاء كريم (1947 ـ 2006) مثالٌ على ذلك، والفيلم آخر عمل سينمائيّ لسيدهم. مع هذا، يلفتُ حضور علاء ولي الدين (1963 ـ 2003) فيه انتباهاً إلى مرحلة وآلية اشتغال، إذْ تشهد تلك التسعينيات ولادة جيلٍ جديد من الكوميديين، سيكون لولي الدين، الراحل باكراً، دورٌ أساسيّ فيه، قبل أن يسطو محمد هنيدي (1965) ومحمد سعد (1968)، على نجومية تبدو سريعاً غير ملائمة لهما، أو بالأحرى يبدوان هما غير متمكّنين من الجمع فيها بين حِرفية أصيلة وفعل استعراضيّ مطلوب للنجومية. ستينيات القرن الـ20 هي أيضاً مرحلة تأسيسية لجيلٍ جديدٍ (حينها) من الكوميديين، يحاول عادل إمام (1940) تثبيت حضوره أثناءها، في "ظلّ" كبارٍ، أمثال فؤاد المهندس (1925 ـ 2006) وعبد المنعم مدبولي (1921 ـ 2006). ينجح إمام زمناً طويلاً في ذلك، قبل أفول براعته الكوميدية وقدراته الأدائية في الأعوام الفائتة، ويرافق تلك المرحلة باختباراتٍ مختلفة. في الوقت نفسه، يسعى الثلاثيّ إلى إيجاد موقع لكوميديا مبسّطة، تعتمد العمل الجماعي في تقديم "اسكتشاتها" الهزلية.
مع هذا، فإنّ "النهاية" غير سعيدة: "تغييب" الحضور الأدائيّ الجميل لجورج سيدهم حاصلٌ، إلى حدّ كبير، في سيرته المهنية، والانفضاض "المزمن" عنه في عزلته وثقل مرضه قاسٍ، وإنْ يكن الانفضاض، في جانبٍ منه، نتاج رغبته هو في تمتين العزلة، كما يُقال.