شكّلت جرأة جوزيف تيرنر اللونية وذهابه إلى مساحات تبدو مغايرة لما ساد زمنه ومزجَه مؤثرات واقعية ورمانسية في أعماله، مرجعية أساسية لتيارات حداثوية عديدة برزت في أواخر القرن التاسع عشر، مثل الانطباعية والوحشية في فرنسا، وكذلك منح التجريديين التعبيريين طاقة وإيقاعات تسرّبت إلى جدارياتهم.
تأمل الفنان الإنكليزي (1775–1851) المناظر الطبيعية، والبحر تحديداً، لأكثر من ستّة عقود، يستيقظ عليها في صباحاته، ويسير على قدميه في مواجهة الشمس، ثم يضع عشرات الرسوم الطوبوغرافية لكلّ مكان تجوّل فيه من إنكلترا وصولاً إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط.
"تيرنر، اللوحات والألوان المائية" عنوان المعرض الاستعادي الذي يستضيفه "متحف جاكمار أندريه" في باريس افتراضياً منذ نهاية أيار/ مايو الماضي، ويتواصل حتى الحادي عشر من كانون الأول/ يناير المقبل، ويضمّ ستين عملاً مائياً، وعشر لوحات زيتية.
يضمّ المعرض أيضاً بعض الأعمال التي احتفظ بها الفنان لنفسه، إلى جانب دراسات ورسومات غير منتهية وآلاف الأعمال على الورق: ألوان مائية، ورسومات وكتب الرسم، والتي تمّت استعارتها من "متحف تيت" اللندني، وتضيء على بداياته كشاب تعلّم الفن ذاتياً، وتلقّى تدريبه على يد مهندس معماري، كما اجتاز دورات في المنظور والطوبوغرافيا، قبل أن يلتحق بالمدرسة الملكية، ويتحرّر بعد ذلك تدريجياً من القيود الأكاديمية ويبتدع أسلوبه الخاص.
يركّز تيرنر على ثيمات تتعلّق بالطبيعة وضآلة الإنسان في محيط يتآلفه وينفر منه معاً، متناولاً مناظر بحرية ومعالم تاريخية في إنكلترا وفرنسا وهولندا، والعديد من المدن الإيطالية القديمة، حيث رسم هناك العديد من اللوحات بالزيت على القماش.
كما يعكس جزء من تجربته ازدهار وانحطاط الإمبراطوريات الإمبريالية ومنها بلاده التي كانت في مرحلة صعودها آنذاك، والروايات المستمّدة من الأدب والأساطير والدين، في محاولة لدمج بعد زمني بآخر روحاني، حيث يتشكل الوجود العظيم أو الطبيعة الكبرى وهو ما حاول أن يشير إليه بلمسة من الغموض ورسم ما هو أبعد من المرئي المحسوس.
من أبرز الأعمال المقدّمة لوحته "روما القديمة: هبوط أغريبينا مع رماد جرمنيكس" (1839)، التي تحاكي إحدى الأساطير الرومانية حول مقتل أحد القادة ضحية سمّ أو سحر في أنطاكية، لتحمل أرملته أغريبينا رماده إلى روما في جرة بعد أن اجتازت البحر سباحةً، وكذلك لوحة "الحرب: المنفى وصخرة ليمت" (1842) التي اختزل فيها حادثة بارزة عايشها تيرنر بنفسه حين نُقل رفات نابليون من سانت هيلانة إلى باريس في جنازة مهيبة، حيث يصوّر بركة راكدة من المياه ذات اللون المحمر في إحالة إلى الدمار والخراب، وينعكس عنها ضوء يخترق الأفق.
اعتمد تيرنر على نظرية الألوان التي وضعها الشاعر الألماني غوته، ويناقش كيف ينظر البشر إلى طبيعة اللون ضمن وصف تفصيلي لظواهر الظلال الملونة والانكسار والانحراف الضوئي، كما يظهر في لوحة "الضوء واللون: صباح الطوفان - موسى يدوّن كتاب التكوين" (1843)، حيث يتفاعل الزمان والمكان مع الذات في جو من الاضطراب يجعل المرء ينظر إلى الوجود من خارج العالم المادي.
يوثّق المعرض سيرة الفنان بالاعتماد على مصادر عديدة تُجمع على أن شغفه الذاتي ومتعته كانتا الدافع الأساسي لمغامرة لم يدرس أثرها في تاريخ الفن إلا بعد فترة ليست قصيرة، ربما يوضّحها كيف قام من فراش الموت لرسم امرأة ماتت في الميناء، ليتشبثّ بذلك الضوء حتى النهاية؛ الضوء الذي يعادل وجوده.