في معرضه الباريسي الأخير يتجاوز الرسام الشاب، جوليان سيتروك، تجربته. يتسلق موهبته جاعلاً منها بستاناً من الأفكار والأيديولوجيات المستحدثة. تاركاً في جعبتها حكايات سنواته التي لم تتجاوز التسع عشرة بعد، بين محطات "المترو" ومتاحف باريس وعوالم السهر والرقص الإندرغراوند، عوضاً عن حيوات السفر بين مدن الشرق والغرب، وصولاً الى عزلاته وحيداً بين ألوانه وريشه.
التصوير والأزياء
جوليان الذي وضع اسمه على خارطة مصغرة من الأسماء اللامعة في عالم الرسم المعاصر في باريس، يقسم وقته بين محترفه الواقع في "مونمارت" وزيارة المعارض والمسارح وعروض الأزياء والتصوير الفوتوغرافي. الأماكن التي اعتاد والداه أن يأخذاه إليها في عملهما، فأمه مصممة أزياء ووالده مصور فوتوغرافي. وهنا بدأت حكايته.
يقول جوليان لـ"العربي الجديد"، إن والده أورثه حب التصوير الفوتوغرافي والموسيقى، وأورثته أمّه شغفاً لا ينتهي بعالم الموضة والأزياء وطرق العيش والتذوق. "هذه العوالم صقلت موهبتي. صار الرسم أداتي للبحث في عوالم بصرية مختلفة غير قائمة فقط على الألوان ومن تحسس الفن من وجهة نظر انطباعية، بل صار الرسم بيتاً آمناً لكل هذا الخارج الذي أنتمي إليه بسبب عائلتي أولاً، ولاحقاً بسبب اشتغالي اليومي وملاحظاتي لتحولات الشارع والمتاحف وأماكن العرض"، موضحاً أن التصوير والموضة فتحا أبواباً وألواناً مدهشة، وجعلاه يتعاطى مع الرسم كشيء وجودي وكمختبر للتعامل مع الحياة من الضفة الأخرى.
تحديث البورتريه
الوالدان اللذان كرسا حياتهما لتنضج موهبة ابنهما التي برزت في عمر مبكر جداً، لا يزالان يتابعان بدقة مسيرة ابنهما الذي عرض لأول مرة بعمر التاسعة. عمر صغير نسبياً لولوج عوالم العرض. لكن هذا القرار اتخذ معه في مدينته "ران" الواقعة في شمال فرنسا. المعرض الأول باع كل أعماله، وهذا لم ينته إلى اليوم حيث يتجاوز سعر اللوحة الواحدة الخمسة آلاف يورو، والإقبال على اقتناء لوحاته يظهر أسلوبه الحداثوي في تجديد مفهوم البورتريه ودمجه مع عناصر أخرى، واعتماد تقنيات وأساليب حولت جوليان إلى مبتكر. فهو يستخدم كل الألوان مع الرمال والحجارة والورق المقوى وصور المجلات والإعلانات والإسطوانات. يعيد تركيب كل هذه الجزيئات لوجوه وشخصيات ومشاهير او مجرد عابري سبيل او مشردين في الشوارع. نضوج التجربة وضع الفنان الشاب أمام تحديات كثيرة، خصوصاً أن خوض العرض في باريس ليس بالسهولة ذاتها التي في مدن فرنسية أخرى، فهنا كل شيء محكوم بقواعد ومعايير "صارمة". يقول جوليان: "أجد صعوبة في تبني أعمالي من قبل الغاليريهات لأني صغير السن. ورغم توافر عناصر الجذب في أعمالي، من الألوان والحجم والأفكار وعصريتها ومحاكاتها العالم اليوم بكل الوجوه والبورتريهات يترددون. يقولون أن علي الانتظار، انتظار ماذا؟ أكرس كل وقتي للرسم. تركت التعليم وأعيش في مرسمي وحيداً. أتسكع مع قلة من الأصدقاء كي أضع كل وقتي من أجل ما أحبه. القسوة هي ان يتم تقزيم ما تفعله بما تملكه من سنوات. معظم رفاقي كبار السن. لأعترف: كلهم"، موضحاً: "صديقتي وعشيقتي ماتيلد هي الوحيدة من سني وأيضاً صديق طفولتي أليوت. كل هذه الوحدة بعض الشيء من أجل الفن. هو عالمي الوحيد الذي أنتمي إليه وأشعر فيه بالأمان"، يضيف: "الغاليريهات تعمل بعقلية أكاديمية لكني رغم ذلك أثبت صوتي. وصرت أعرض هنا وهناك. لدي إلى الآن في أرشيفي خمسة معارض. هذا آخرها في غاليري، اعتبر أنهم قدروا موهبتي كثيراً، وهي غاليري "شواب بوبورغ" الباريسية. أعطوني فرصة جديدة لإطلالة مختلفة ولجمهور مختلف".
Instagram Post |
الحجاب كقيمة جمالية
التعامل مع الغاليريهات كواحدة من أدوات التسويق، لا يخيف جوليان الذي لا يزال يُقدم بجرأة على عروض خاصة ويبيع أعماله كلها، لكن حلم الشاب أن يرى أيضاً العالم العربي أعماله ويتعرف إليها. "أحب أن يكتشف العرب اعمالي. أود يوماً ما أن أعرض في دبي وأبو ظبي والشارقة وبيروت وفي طنجة وفاس المغربيتين. أود ان يتعرف العربي إلى أعمالي التي أوحت لي بها ايضاً ثقافته. أستمع كثيراً للموسيقى العربية، وأحب مقطوعات ربيع أبو خليل الموسيقية أثناء الرسم. وتأثرت كثيراً في زياراتي العائلية إلى طنجة بأجواء المدينة ونسائها. ورسمت لوحات عدة من مشاهداتي هناك. خصوصاً النساء المحجبات"، مشيراً إلى أن الحجاب بالنسبة إليه ليس مجرد غطاء ديني، بل هو أيضاً مكمل جمالي مهم وملهم. موضحاً: "رأيت المحجبات في طنجة. هذا الخفر والترنح والمشي البطيء، خلف حجاب متناسق مع الألوان والثياب. كنت مبهوراً بهذا، ورسمت لوحة عن امرأة في طنجة محجبة. إضافة ألى أن أحد بورتريهاتي عن داليدا، فهي أيضاً كانت تضع فيها فولاراً يشبه الحجاب، وهو ما يسمى بالفولار الايطالي، يتقاطع هذا مع فكرتي حول الحجاب كرديف فني".
ذاكرة العائلة
حب جوليان للشرق، متأت أيضاً من أصل عائلة والده اليهودية من تونس. فهو لا يزال يستمع إلى أقربائه الآتين من العاصمة تونس عن ذكريات مدينتهم وشوارعها قبل هجرتهم إلى باريس في أوائل الستينيات، "أحلم بزيارة تونس قريباً. وربما في الصيف سأذهب الى هناك. لأتعرف اكثر الى تاريخ عائلتي، التي لا يزال أفرادها يحملون إرثهم معهم، وربما هنا رسالتي في شغلي الفني أن أعيد إحياء هذه الذاكرة قبل طمسها".
Instagram Post |