جوني هاليداي، هو المطرب الفرنسي الذي تجاوزت أرقام مبيعاته المائة مليون أسطوانة. المطرب الشعبي المُعتبر من جماعة الأكثر شهرة في تاريخ الموسيقى الفرنسية، وصاحب الصوت الأجشّ الذي قدر على فرض نفسه أمام الأصوات الفرنسية الناعمة التي كانت في مواجهته، واستطاع فرض نبرته وسطها.
هو جوني هاليداي، الأسطورة الغنائية الفرنسية التي ترفض أن تموت. كأنه، بعد أكثر من عام على رحيله يقول: "ما زلت باقياً على قيد الحياة". أكثر من وسيلة إعلام فرنسية تعاملت مع مرور تلك الفترة على رحيل صاحب أغنية "J'en parlerai au diable" بشوق واحترام، إذْ عنونت العديد من الصحف صفحاتها الرئيسية باسمه تخليداً لذكراه. وكان الإصرار من شركة الإنتاج الخاصة به على خروج ألبومه الغنائي الأخير في هذا التوقيت بالذات، بعد عام من مُغادرته الحياة.
لكن تبدو المفارقة في عنوان الألبوم نفسه "Mon pays c'est l'amour"، هل كان من اختيار هاليداي قبل وفاته أم أن شركة الإنتاج اختارت هذا العنوان، كي يظهر مناسباً لحالة البقاء التي فعلها هذا المطرب الفرنسي، على الرغم من رحيله. لعلها نوع من الاشتغالات التجارية التي تفهمها شركات الإنتاج هذه، وتتعامل على أساسها من أجل العثور على طريقة أوسع تتيح للعمل انتشاره على نحو يرضيها. لكن في الوقت نفسه أن يأتي ذلك الاختيار، في سياق فلسفة الحياة التي كان صاحب العمل نفسه يسير عليها. أو ربما تمّ اختيار العنوان الكبير للألبوم على هذا النحو، حتى يكون عاكساً لحالة مطرب العمل نفسه، وشرحاً موجزاً لسيرة حياته الكبيرة.
ومن أجل إصدار هذا العمل، كان يشتغل مع الفريق، وهو عارف بالسرطان الذي يقتل جسده، لكنه مضى في شغله. كان يضحك طوال تسجيل الأسطوانة ويشتم المرض. لا يتنافى هذا مع طبيعة حياة مطرب "Un enfant du siècle"، وعاشق الحياة هذا الذي لا يُنكر انطلاقاته الصعبة مُعترفاً بأنه قد "ولدَ في الشارع، في ليلة عاصفة في يونيو 1943". وهو راح في الأغنية نفسها يكرر "لقد وُلدتُ في الشارع". وجعل هذا المقطع مُكرراً على نحو لافت طوال العمل، كأنه يؤكد هذا الأمر، ولا يخجل منه.
وخلال شغله على عمله الذي سيصدر بعد رحيله، كان المرض ينهشه لأشهر لكنه بقي مُقاوماً. ولنا أن نتخيّل مُطرباً مُصاباً في رئته بالسرطان، وعلى موعد قريب من موت مؤكد. كيف يطلع صوته! وغير قصة هذا الصوت الذاهب إلى موته ورحيله، المحتوم بحسب كل الوصفات الطبيّة، هناك قصة إبقاء سيرة هذا الصوت على نحو مُغاير. إبقاء كل شيء على قيد الحياة ومنها سيرته البعيدة عن الغناء. وقصة الميراث الذي فجّر فيه إشكالية كبيرة لا تزال غير محسومة إلى اليوم.
يبقى السؤال الدائم هنا حول الفكرة التي قرر من خلالها هاليداي تقسيم ثروته. الكيفية التي وقف عليها، ومن خلالها قرّر أن يُعطي هذا ويحرم ذاك. لا يمكن نسيان تلك الصور الجماعية الحزينة التي جمعت الأهل كُلّهم حوله بعد أن مات. كانوا وراء العربة التي حملت جسده الراحل، ويبكون أمام الكاميرات. لكن الدموع والعائلة ذاتها انقسمت بعد إعلان الوصيّة التي كتبها مطرب "que je t'aime". ليس الدموع فقط ولكن آهات الإحساس بالخديعة، وعلى وجه الخصوص من جهة الوالد الذي أخفى عليهم قصة الوصية. هي نفسها الوصية التي لم تكن في حسبان ولا خاطر أهله. وهي الوصية ذاتها التي أشعلت النار بين الأسرة الواحدة بعد رحيل "زعيمها"، الذي هو نفسه من منح للنيران فرصة طلوعها. قد بدأت الحكاية بعد انتهاء مراسم الجنازة بوقت ليس قصيراً، حين قال محامي جوني هاليداي بما جاء في الوصيّة: "لا شيء لولديه الطبيعيين"، والمقصود هما لورا وديفيد.
في حين راحت كل أموال المطرب الفرنسي وأملاكه لزوجته الأخيرة ليتيسيا، التي تزوجها عام 1996 ويبدو أنها لم تكن قادرة على الإنجاب، أو أنه لم يعد يريد الإنجاب، فذهبا لخيار التبني، فكانا جوي وجاد، طفلين من فيتنام. هي نفسها ليتيسيا التي قالت في بيان التعزية الأول: "لقد ذهب جوني هاليداي، أقوم بتدوين هذه المفردات، وأنا لا أصدّق من الأساس أنه راح. لكنها الحقيقة، جوني مات، لقد غادرنا بكل شجاعة وصبر وكرامة. لقد قاوم المرض كل هذه الفترة. المرض نفسه وقد بقي ينهش في فيه طوال أشهر، وطوال ذلك الصبر، منحنا الكثير من القوّة وكيف تكون الحياة رائعة".
لكن تبقى المسألة هنا في الوصية التي أعلنها المحامي، وذهبت كلّها لزوجته الأخيرة، وحين وفاتها تروح الثروة كلّها للطفلين. ولم تكن مصادفة أن يدوّن جوني هاليداي وصيته في ولاية كاليفورنيا الأميركية، حيث كان يقيم حتى وفاته، وحيث كان يعلم تماماً بأن هذه الولاية لا تمنع حرمان الأولاد بالتبني من الإرث، على عكس القوانين الفرنسية التي تمنع ذلك.
لورا وديفيد بالتزامن قرّرا إعلان الطعن ضد وصية والدهما الأصلي، وكما يعتقدان بأن كل شيء كان معه هو لهما وحدهما. وقد أُسس الطعن من أجل الحصول على كل الثروة المالية والمادية، وإذا كانت الحقوق المالية كثيرة من أموال ومبان تبقى الثروة الحقيقة المتنازع عليها في الإرث الفني الخاص لوالدهم، الذي لا يُقدّر بثمن. لكن الإشكالية التي قد تواجه الابنين الطبيعيين للفنان الفرنسي، حال طعنهما في الوصية، أن والدهما قد فعل كل شيء من أجلهما. أشياء كثيرة وثمينة تقوم بتأمين حياتهما على نحو صريح.
من هنا لا أحد يعرف أين ستذهب القصة إلى نهايتها، وخصوصاً حين يعود القارئ لقصص الناس الأثرياء الذين تعبوا في حياتهم، وفي آخر حياتهم قرّروا أن يتركوا أولادهم يعيدون السيرة نفسها. البحث عن طريق حصد المال من جديد، وأن يعودوا إلى تتبع سيرة الآباء، وكيف صنعوا حياتهم من نقطة الصفر. هل كان جوني هاليداي يريد هذا؟ قصته مع أولاده لا تزال بلا نهاية، حتى وقد مات.