05 نوفمبر 2024
جون كيري... إنّا نسألك الرحيلا
منذ نشأت القطبية الدولية، غداة الحرب العالمية الثانية، بين القوة السوفييتية العظمى والقوة الأميركية الأعظم، لم تعرف دبلوماسية الولايات المتحدة ناظراً للخارجية أضعف من جون كيري وأكثر فشلاً منه، ويتجلى هذا الإخفاق أوضح من ذي قبل، عشية رحيل الرجل بعد نحو شهرين، تاركاً وراءه إرثاً من الفشل المتراكم طوال السنوات الأربع التي قضاها وزيراً لأرفع منصب حكومي، في الولاية الثانية للرئيس باراك أوباما.
ومع أن سجل جون كيري السابق حافل بالفشل والإخفاقات، خصوصاً منذ أن خسر التنافس على ترشيح الحزب الديمقراطي له، لخوض معركة انتخابات الرئاسة أمام جورج بوش الابن، إلا أن فشله وزيراً للخارجية الأميركية كان أشد فداحةً مما لحق به في أي محطةٍ سابقة من عمره السياسي، بما في ذلك محطة رئاسته اللجنة الخارجية والأمن في مجلس الشيوخ.
ومع أنه يمكن رد الفشل الذي واكب وزير خارجية الدولة العظمى الوحيدة إلى النهج التراجعي المتبع في الإدارة الأميركية، منذ تولاها باراك أوباما، إلا أن إدمان جون كيري على الفشل، طوال نحو أربع سنوات متواصلة، في وقتٍ شهدت الإدارة استقالة أكثر من وزير ومسؤول أميركي رفيع، لاسيما في وزارة الدفاع، لهو الدليل بعينه على وجود تطابقٍ تام بين الرئيس المتردّد والوزير الطاعن في الانحناء أمام الصعاب والتحديات السياسية.
وإذا كان فشل جون كيري في معالجة ملف عملية السلام الفلسطينية – الإسرائيلية غير كافٍ لدفع دبلوماسية الوزير الأميركي المثابر على طحن الماء في اجتماعات مطولة، من دون تحقيق أي تقدّم يُعتد به، فقد جاء فشل كيري الأكبر في معالجة المأساة السورية، ليطبع كامل عهده بالفشل والإخفاق، إلى حدٍّ لا يمكن معه تذكّر نقطة مضيئة واحدة في سجل وزير خارجية باراك أوباما.
كانت وزارة الخارجية الأميركية معملاً بشرياً لصناعة النجوم المتلألئة فوق خشبة مسرح السياسة الدولية، من دين راسك إلى هنري كيسنجر إلى جيمس بيكر، الأمر الذي لا مفرّ معه من عقد المقارنة، الظالمة بالضرورة الموضوعية، بين هؤلاء الذين تركوا بصماتهم القوية على أزمنتهم الخاصة بكل واحدٍ على حدة ، وبين جون كيري، آخر وزير لم يلمع له نجم، ولم يترك بصمة، أو يصنع فرقاً على الإطلاق.
قد يكون الرجل مفعماً بحسن النية، ولدية طاقةٌ لا نهاية لها على السفر والتنقل من عاصمة إلى أخرى، جرياً وراء مخرج لهذه الأزمة أو تلك، على نحو لا يجاريه سوى عدد قليل من وزراء الخارجية في العالم، إلا أنه ظل مفتقراً إلى الإرادة القادرة على وضع وزن الولايات المتحدة الهائل في كفة الميزان، من أجل انتزاع موقفٍ هنا، أو التوصل إلى حل دبلوماسي هناك.
ولعل تهافت جون كيري في مسألتين كبيرتين من مسائل الشرق الأوسط، أمام مراوغات بنيامين نتنياهو في الملف الفلسطيني، وأمام سيرغي لافروف في الكارثة السورية، أكثر ما ستحفظه ذاكرة شعوب هذه المنطقة من تراجعٍ وتعثرٍ وانكفاءٍ متواصل، عن زمن كيري في المقام الثاني، وعهد رئيسه في البيت الأبيض باراك أوباما في المقام الأول.
استخف الإسرائيليون بجون كيري علناً، وتبرموا من زياراته المكوكية إلى مختلف مراكز صنع القرار في المنطقة، وفق ما بدا عليه ذلك الضجر في إيماءات أركان حكومة نتنياهو، وما تجلت عنه الاستهانة بالرجل في تعليقات الصحافة الإسرائيلية، وذلك إلى أن صدّته حكومة اليمين والمستوطنين بكل عجرفة، وصفقت الباب في وجهه دفعة واحدة.
أما عن حصاد مساعيه في موسكو، واجتماعاته الماراثونية مع وزير خارجية فلاديمير بوتين، لتخفيف حدة اشتعال الحريق السوري، فحدّث ولا حرج، ليس فقط عن إخفاقاته المثيرة للرثاء، وإنما أيضا عن تكرار وقوعه في حبائل التكتيكات الدبلوماسية الروسية، مره إثر مرة، من دون أن يبدو على وزير الخارجية الأميركية أنه قد تعلم درساً واحداً من وقوعه المستمر في الخديعة، أو أنه أخذ عظةً مفيدة من امتلاء كأسه المترع بالمرارة والخيبة. ففيما كان لافروف يبدو كأنه السكين القاطع، وهو يمارس التكتيكات الوحشية في كل ما يتعلق بجوانب الأزمة السورية، كان جون كيري يبدو، في المقابل، وكأنه على شكل قالبٍ من الزبدة، حتى لا نقول "جبنة كيري" المائعة، تروح فيها السكين وتجيء بسهولة مفرطة، تقطعها إلى مكعباتٍ صغيرة، ثم يعيد لافروف تشكيلها كيفما اتفق، من دون أن يصرخ كيري من الألم مرة.
كان الفصل الأخير من المبادرة الدبلوماسية بين جون كيري وسيرغي لافروف (هل هو الأخير حقاً) المثير للشفقة حيال سذاجة الوزير الأميركي، عندما عقد اتفاق هدنة تحمل في أحشائها بذور سقوطها السريع، وراح يطلب من الأطراف المعنية، وأعضاء مجلس الأمن الدولي، الموافقة على هذا الاتفاق الذي يصر كيري على عدم نشر بنوده، بذرائع أمنية، وليس بتنازلاتٍ سياسيةٍ مهينة للولايات المتحدة على الأرجح.
ومن الطرائف المضحكة المحزنة أنه عندما اعترض وزير الدفاع الأميركي، آشتون كارتر، على هذه الاتفاقية المثيرة لحفيظة الجنرالات في الجيش، وفي مجتمع الاستخبارات الأميركية، انقلب جون كيري على زملائه، بدل أن يجري مراجعه عاجلةً لحصيلة ما اقترفت يداه، فاتهم كارتر بأنه ينتمي إلى زمن الحرب الباردة، ولم يتخلص بعد من تلك العقلية البائدة.
إزاء ذلك كله، من المرجح ألا تقتصر دعوة جون كيري إلى الرحيل بسرعة على المتضرّرين في الشرق الأوسط من سياسته المتهافتة، وإنما قد تطاول أوروبيين كثيرين مستائين من نهجه الانفرادي، ومن انسياقه خلف الألاعيب الدبلوماسية الروسية. وقد تلامس هذه الدعوة الأمنية ألسنة أميركيين في الإدارة والكونغرس والإعلام والأمن، ممن استكثروا على بلادهم كل هذا الاستخذاء، وكل هذا التمادي في الانحناء الذي بات يجسّده ويرمز إليه جون كيري، بعظمه ولحمه.
ومع أن سجل جون كيري السابق حافل بالفشل والإخفاقات، خصوصاً منذ أن خسر التنافس على ترشيح الحزب الديمقراطي له، لخوض معركة انتخابات الرئاسة أمام جورج بوش الابن، إلا أن فشله وزيراً للخارجية الأميركية كان أشد فداحةً مما لحق به في أي محطةٍ سابقة من عمره السياسي، بما في ذلك محطة رئاسته اللجنة الخارجية والأمن في مجلس الشيوخ.
ومع أنه يمكن رد الفشل الذي واكب وزير خارجية الدولة العظمى الوحيدة إلى النهج التراجعي المتبع في الإدارة الأميركية، منذ تولاها باراك أوباما، إلا أن إدمان جون كيري على الفشل، طوال نحو أربع سنوات متواصلة، في وقتٍ شهدت الإدارة استقالة أكثر من وزير ومسؤول أميركي رفيع، لاسيما في وزارة الدفاع، لهو الدليل بعينه على وجود تطابقٍ تام بين الرئيس المتردّد والوزير الطاعن في الانحناء أمام الصعاب والتحديات السياسية.
وإذا كان فشل جون كيري في معالجة ملف عملية السلام الفلسطينية – الإسرائيلية غير كافٍ لدفع دبلوماسية الوزير الأميركي المثابر على طحن الماء في اجتماعات مطولة، من دون تحقيق أي تقدّم يُعتد به، فقد جاء فشل كيري الأكبر في معالجة المأساة السورية، ليطبع كامل عهده بالفشل والإخفاق، إلى حدٍّ لا يمكن معه تذكّر نقطة مضيئة واحدة في سجل وزير خارجية باراك أوباما.
كانت وزارة الخارجية الأميركية معملاً بشرياً لصناعة النجوم المتلألئة فوق خشبة مسرح السياسة الدولية، من دين راسك إلى هنري كيسنجر إلى جيمس بيكر، الأمر الذي لا مفرّ معه من عقد المقارنة، الظالمة بالضرورة الموضوعية، بين هؤلاء الذين تركوا بصماتهم القوية على أزمنتهم الخاصة بكل واحدٍ على حدة ، وبين جون كيري، آخر وزير لم يلمع له نجم، ولم يترك بصمة، أو يصنع فرقاً على الإطلاق.
قد يكون الرجل مفعماً بحسن النية، ولدية طاقةٌ لا نهاية لها على السفر والتنقل من عاصمة إلى أخرى، جرياً وراء مخرج لهذه الأزمة أو تلك، على نحو لا يجاريه سوى عدد قليل من وزراء الخارجية في العالم، إلا أنه ظل مفتقراً إلى الإرادة القادرة على وضع وزن الولايات المتحدة الهائل في كفة الميزان، من أجل انتزاع موقفٍ هنا، أو التوصل إلى حل دبلوماسي هناك.
ولعل تهافت جون كيري في مسألتين كبيرتين من مسائل الشرق الأوسط، أمام مراوغات بنيامين نتنياهو في الملف الفلسطيني، وأمام سيرغي لافروف في الكارثة السورية، أكثر ما ستحفظه ذاكرة شعوب هذه المنطقة من تراجعٍ وتعثرٍ وانكفاءٍ متواصل، عن زمن كيري في المقام الثاني، وعهد رئيسه في البيت الأبيض باراك أوباما في المقام الأول.
استخف الإسرائيليون بجون كيري علناً، وتبرموا من زياراته المكوكية إلى مختلف مراكز صنع القرار في المنطقة، وفق ما بدا عليه ذلك الضجر في إيماءات أركان حكومة نتنياهو، وما تجلت عنه الاستهانة بالرجل في تعليقات الصحافة الإسرائيلية، وذلك إلى أن صدّته حكومة اليمين والمستوطنين بكل عجرفة، وصفقت الباب في وجهه دفعة واحدة.
أما عن حصاد مساعيه في موسكو، واجتماعاته الماراثونية مع وزير خارجية فلاديمير بوتين، لتخفيف حدة اشتعال الحريق السوري، فحدّث ولا حرج، ليس فقط عن إخفاقاته المثيرة للرثاء، وإنما أيضا عن تكرار وقوعه في حبائل التكتيكات الدبلوماسية الروسية، مره إثر مرة، من دون أن يبدو على وزير الخارجية الأميركية أنه قد تعلم درساً واحداً من وقوعه المستمر في الخديعة، أو أنه أخذ عظةً مفيدة من امتلاء كأسه المترع بالمرارة والخيبة. ففيما كان لافروف يبدو كأنه السكين القاطع، وهو يمارس التكتيكات الوحشية في كل ما يتعلق بجوانب الأزمة السورية، كان جون كيري يبدو، في المقابل، وكأنه على شكل قالبٍ من الزبدة، حتى لا نقول "جبنة كيري" المائعة، تروح فيها السكين وتجيء بسهولة مفرطة، تقطعها إلى مكعباتٍ صغيرة، ثم يعيد لافروف تشكيلها كيفما اتفق، من دون أن يصرخ كيري من الألم مرة.
كان الفصل الأخير من المبادرة الدبلوماسية بين جون كيري وسيرغي لافروف (هل هو الأخير حقاً) المثير للشفقة حيال سذاجة الوزير الأميركي، عندما عقد اتفاق هدنة تحمل في أحشائها بذور سقوطها السريع، وراح يطلب من الأطراف المعنية، وأعضاء مجلس الأمن الدولي، الموافقة على هذا الاتفاق الذي يصر كيري على عدم نشر بنوده، بذرائع أمنية، وليس بتنازلاتٍ سياسيةٍ مهينة للولايات المتحدة على الأرجح.
ومن الطرائف المضحكة المحزنة أنه عندما اعترض وزير الدفاع الأميركي، آشتون كارتر، على هذه الاتفاقية المثيرة لحفيظة الجنرالات في الجيش، وفي مجتمع الاستخبارات الأميركية، انقلب جون كيري على زملائه، بدل أن يجري مراجعه عاجلةً لحصيلة ما اقترفت يداه، فاتهم كارتر بأنه ينتمي إلى زمن الحرب الباردة، ولم يتخلص بعد من تلك العقلية البائدة.
إزاء ذلك كله، من المرجح ألا تقتصر دعوة جون كيري إلى الرحيل بسرعة على المتضرّرين في الشرق الأوسط من سياسته المتهافتة، وإنما قد تطاول أوروبيين كثيرين مستائين من نهجه الانفرادي، ومن انسياقه خلف الألاعيب الدبلوماسية الروسية. وقد تلامس هذه الدعوة الأمنية ألسنة أميركيين في الإدارة والكونغرس والإعلام والأمن، ممن استكثروا على بلادهم كل هذا الاستخذاء، وكل هذا التمادي في الانحناء الذي بات يجسّده ويرمز إليه جون كيري، بعظمه ولحمه.
دلالات
مقالات أخرى
29 أكتوبر 2024
22 أكتوبر 2024
15 أكتوبر 2024