10 ابريل 2019
حادثة نيوزيلندا وقصف التاريخ
يلفت الانتباه، في تناول الكتّاب في "العربي الجديد" ارتكاب الأسترالي برينتون تارانت جريمته قتل مسلمين مصلين في مسجدين في مدينة كريست تشريش النيوزيلندية في 15 مارس/ آذار 2019، تركيزهم على الباعث الحقيقي لتنفيذ الجريمة. وقد توافقوا، على نحوٍ ما، على أنّ هذه الحالة في العداء للإسلام وكراهية المسلمين ليست حالة تقليدية، وإنّما "أيديولوجيا مسلّحة بتأويلٍ معيّن للتاريخ"، أو بتعبير آخر هي تطبيق لامتزاج الأيديولوجيا بالدعاية التاريخية.
وقد هيأت الفلسفة والممارسة السياسية في الغرب لبروز هذه الفكرة التي لا تبعد عن فكرة الفيلسوف الإيطالي، نيكولا ماكيافيللي، في كتابه "فن الحرب"(عام1521) الذي نادى فيه بفكرة "الأمة تحت السلاح"، مستنداً إلى أنّ لعبة الحروب، بواسطة الملوك والأمراء في قيادة الجيوش المحترفة، ومن دون اعتبار للشعوب والكتل البشرية، قد انتهت، قبل أن تتطور إلى فكرة الحرب الشاملة التي أصبحت سائدة في القرن العشرين. ثم تمدّدت الفكرة بفضل الاعتقاد الناتج عن الثورة الأميركية في أواخر القرن الثامن عشر بأنّ البشر يمكن أن تساهم في تحريكهم كلّ من الأيديولوجيات والوطنية والشعور القومي. هذه الأفكار المنقولة عبر التاريخ اعتمدتها المذاهب المختلفة طريقة تفكير، وهي الاعتقاد الجازم واليقين المطلق بامتلاك الحقيقة كاملة، ولا ينتقص من ذلك تطبيقها بشكلٍ فردي، مثلما قام به تارانت وغيره، أو بشكلٍ تنظيمي، مثلما يقوم به تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ومن قبله "القاعدة".
تحيل الحادثة إلى الرواية الخيالية العالمية "شيفرة دافنشي"، لمؤلفها الأميركي، دان براون،
والتي نشرت عام 2003، وليست الفكرة الرئيسة عن حدوث جريمة قتل في متحف اللوفر بحق القيّم الذي أعطى معلومات خاطئة ليحافظ على السر، وإنّما فيما تكشف من أسرار بعد ذلك، تجتهد في عقد مقارنات بين الدين المسيحي والتاريخ المعروف. وما قادت إليه الأحداث من نشاط منظمة أخوية سيون التي لاقت اهتماماً كبيراً بعد نشر الرواية. وعلى الرغم من التشكيك في وجودها، إلّا أنّها وردت، مرة أخرى، في كتاب "الدم المقدس والكأس المقدسة"، الذي أشار إلى عدة معلومات، منها: عودة تأسيس هذه الأخوية إلى عام 1099، حيث انضم إليها بعد ذلك عدة مشاهير، كإسحاق نيوتن وليوناردو دافنشي. وتقوم الأخوية بتوفير الحماية لأشخاصٍ يُعتقد أنّهم من سلالة السيد المسيح عليه السلام، وزوجته المزعومة مريم المجدلية، وكلاهما يحمل دماً ملكياً، لأنّهما من أحفاد الملك داوود. وتهدف الأخوية إلى الكشف عن الكأس المقدسة السرية لإعادة الدين المسيحي الحقيقي، المستند في جذوره إلى اليهودية، وتتويج الوريث الشرعي للملك الرب على مملكة إسرائيل الكبرى، وأخيراً محاولة الأخوية تأسيس ما تدعى "الامبراطورية الأوروبية المقدسة"، والتي ستحكم العالم وتنشر السلام والرخاء.
يبدو أنّ هذا الأساس التنظيمي، المغذّى بروايات صحيحة أو متوهمة، وما شابهه، هو ما جعل التوجهات اليمينية المتطرّفة المتصاعدة عالمياً تعيش في حالة نرجسيةٍ أيديولوجيةٍ، تتوجس من الإسلام خطرا قادما لتهديد الحضارة الغربية. وعلى الرغم من هذا الإحساس، إلّا أنّه لا يضع الإسلام في كفةٍ موازيةٍ كقوة جديرة بالمنافسة، وبإمكانه أن يسود يوماً ما، وإنّما يصوّره وباءً لا بد من اجتثاثه من الغرب. وفي خلفية المشهد المبني على العداء للأجانب والتنوع إشارات مهمة للتاريخ، عبّر عنها تارانت بكراهيةٍ متجذّرة وعنصرية عميقة، نيابة عن العقل الجمعي لبعض الساسة ووسائل الإعلام والمثقفين الذين ظلوا يغذّون ظاهرة الإسلاموفوبيا.
كتب في سلاحه الذي استخدمه في الجريمة عبارات تشير إلى تاريخ الفتوحات الإسلامية، مثل "التركي الفجّ 1683 فيينا"، في إشارة إلى معركة فيينا التي خسرتها الدولة العثمانية، ومثلت نهاية توسعها في أوروبا. وكتب تاريخ "1571"، في إشارة إلى "معركة ليبانتو" البحرية التي خسرتها الدولة العثمانية أيضاً. كما كتب على أحد الأسلحة "وقف تقدم الأمويين الأندلسيين في أوروبا"، في إشارة إلى الفتح الإسلامي للأندلس، وتأسيس إمارة إسلامية فيها على يد عبد الرحمن بن معاوية (الداخل) عام 756م.
وما لا ينبغي نسيانه، إطارا فكريا ساهم في تصاعد هذه النزعة نظرية "صراع الحضارات"،
منذ كانت بذرة محاضرة ألقاها أرنولد توينبي عام 1947، وبنى عليها برنارد لويس وصمويل هنتنغتون أضلعاً أخرى، حتى اشتدّ عودها، ومثّلت الحادثة الكبرى والأهم في القرن العشرين. وقف المؤرخون كثيراً عند حادثة اصطدام الحضارة الغربية بسائر المجتمعات الأخرى في العالم. وتنبع أهمية هذا الحدث، في رأي توينبي، من أنّه الخطوة الأولى نحو توحيد العالم في مجتمع واحد، يشتعل صراعه في ميدان الدين، كمعتقد رئيس ومرجع أساسي في قيام الحضارة. ثم أصبحت نظرية صراع الحضارات منهجاً كلما استشعر الغرب بدنو خطر ما، توجه إلى العالم الإسلامي وإلى الإسلام باعتباره الخصم المتبقي، بعد نهاية الحرب الباردة، وتحطم الأسطورة الشيوعية، وتحول العالم إلى قطبية واحدة.
في تحليلاته التي أدرجها في كتابه "الهوية والعنف: وهم المصير الحتمي"، تحدث أمارتيا سن عن "عنف الوهم"، حيث إنّ الطائفية قد تكون مجرد شيء خامد قرونا، ثم يسعّرها الطائفيون، ويوقظون فتنةً لا يعرف أحد كيف يخمدها. وتحدّث سن عن الانتماءات الدينية والتاريخ الإسلامي، وأسهب فيه عن تاريخ المسلمين المتسامح، وإسهاماتهم الحضارية والعلمية. وأكّد أنّ الخطر يحدث، حينما نتبنى النظرة عن هوية الطرف الآخر من خلال تعريف ذاتنا لهم، فمثلاً لم يكن اليهود، بطبيعة الحال، هم الموجودين في كتب النازيين، ولا منشوراتهم. وبالطبع، لم يكن المسلمون الهنود أولئك الموجودين في منشورات الهندوس وليس العكس. ومن الغباء أن تختزل الإنسان في هوية واحدة، ومن الغباء الأكثر أن تصدّق أنّ هوية الشخص الآخر هي ما يتم ترويجه لدى خصومه.
وكان سن قد شهد، في طفولته الباكرة، صراعاً بين المسلمين والهندوس في بلدته، راح ضحيته كثيرون. ولكن العامل المسلم الذي انتهى به المطاف في حديقة أسرة أمارتيا، ثم مات قبل أن يوصله والد أمارتيا إلى المستشفى، ترك ندوباً في مشاعر الطفل الصغير، وكانت هذه الحادثة حافزه لتحليل مشاعر العنف المنضوي تحت الاعتقادات المختلفة.
يذهب العالم، في خطوط متوازية، حيث يزداد إيماناً وعنفاً في الوقت نفسه، فإيمان تارانت
بمعتقده، مهما كان خطله، هو الذي قاده إلى تنفيذ هذه الجريمة، ووجود التوجهات اليمينية المتطرّفة ينشط، جنباً إلى جنب، مع الموجة العالمية للتدين. تحمل هذه الأوبة، في طياتها، أحداث عنفٍ ونزوع نحو السلام غير المُدرك حالياً، لأسباب يمكن إجمالها في ثلاث نقاط. الأولى أنّ ظاهرة التدين بهذه الكثافة يشوبها النزوع إلى قومية أو إثنية معينة، ما يجعلها يغلب عليها التطييف الديني أو السياسي. وهنا يضيع مفهوم النزوع نحو الدين الذي يختلف عن مفاهيم التدين، وقليلٌ من يفطن إلى التفريق بين المفهومين. النقطة الثانية أنّ حالات التدين الآن مظهرية أكثر منها جوهرية. وعلى الرغم من أنّ هناك شعرة فقط بين الحالتين، ولا يمكن لأحد أن يدخل قلب الآخر، لتبين درجة إيمانه، فإنّ طغيان المظاهر يخدع ويغيب المعرفة العميقة للدين. النقطة الثالثة هي البحث عن فردوس وسلام مفقود في هذا العالم المتناحر. ولعل العنف الذي التصق بهذا التوجه ليس من صميم الدين، لا من قريب أو بعيد. ولكن نجد أنّ توجه الناس في أنحاء العالم نحو التديّن غالباً ما يرافقه جهلٌ بأحكام الدين ومقاصده، ولذلك يظهر الغلو والتطرّف.
وقد هيأت الفلسفة والممارسة السياسية في الغرب لبروز هذه الفكرة التي لا تبعد عن فكرة الفيلسوف الإيطالي، نيكولا ماكيافيللي، في كتابه "فن الحرب"(عام1521) الذي نادى فيه بفكرة "الأمة تحت السلاح"، مستنداً إلى أنّ لعبة الحروب، بواسطة الملوك والأمراء في قيادة الجيوش المحترفة، ومن دون اعتبار للشعوب والكتل البشرية، قد انتهت، قبل أن تتطور إلى فكرة الحرب الشاملة التي أصبحت سائدة في القرن العشرين. ثم تمدّدت الفكرة بفضل الاعتقاد الناتج عن الثورة الأميركية في أواخر القرن الثامن عشر بأنّ البشر يمكن أن تساهم في تحريكهم كلّ من الأيديولوجيات والوطنية والشعور القومي. هذه الأفكار المنقولة عبر التاريخ اعتمدتها المذاهب المختلفة طريقة تفكير، وهي الاعتقاد الجازم واليقين المطلق بامتلاك الحقيقة كاملة، ولا ينتقص من ذلك تطبيقها بشكلٍ فردي، مثلما قام به تارانت وغيره، أو بشكلٍ تنظيمي، مثلما يقوم به تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ومن قبله "القاعدة".
تحيل الحادثة إلى الرواية الخيالية العالمية "شيفرة دافنشي"، لمؤلفها الأميركي، دان براون،
يبدو أنّ هذا الأساس التنظيمي، المغذّى بروايات صحيحة أو متوهمة، وما شابهه، هو ما جعل التوجهات اليمينية المتطرّفة المتصاعدة عالمياً تعيش في حالة نرجسيةٍ أيديولوجيةٍ، تتوجس من الإسلام خطرا قادما لتهديد الحضارة الغربية. وعلى الرغم من هذا الإحساس، إلّا أنّه لا يضع الإسلام في كفةٍ موازيةٍ كقوة جديرة بالمنافسة، وبإمكانه أن يسود يوماً ما، وإنّما يصوّره وباءً لا بد من اجتثاثه من الغرب. وفي خلفية المشهد المبني على العداء للأجانب والتنوع إشارات مهمة للتاريخ، عبّر عنها تارانت بكراهيةٍ متجذّرة وعنصرية عميقة، نيابة عن العقل الجمعي لبعض الساسة ووسائل الإعلام والمثقفين الذين ظلوا يغذّون ظاهرة الإسلاموفوبيا.
كتب في سلاحه الذي استخدمه في الجريمة عبارات تشير إلى تاريخ الفتوحات الإسلامية، مثل "التركي الفجّ 1683 فيينا"، في إشارة إلى معركة فيينا التي خسرتها الدولة العثمانية، ومثلت نهاية توسعها في أوروبا. وكتب تاريخ "1571"، في إشارة إلى "معركة ليبانتو" البحرية التي خسرتها الدولة العثمانية أيضاً. كما كتب على أحد الأسلحة "وقف تقدم الأمويين الأندلسيين في أوروبا"، في إشارة إلى الفتح الإسلامي للأندلس، وتأسيس إمارة إسلامية فيها على يد عبد الرحمن بن معاوية (الداخل) عام 756م.
وما لا ينبغي نسيانه، إطارا فكريا ساهم في تصاعد هذه النزعة نظرية "صراع الحضارات"،
في تحليلاته التي أدرجها في كتابه "الهوية والعنف: وهم المصير الحتمي"، تحدث أمارتيا سن عن "عنف الوهم"، حيث إنّ الطائفية قد تكون مجرد شيء خامد قرونا، ثم يسعّرها الطائفيون، ويوقظون فتنةً لا يعرف أحد كيف يخمدها. وتحدّث سن عن الانتماءات الدينية والتاريخ الإسلامي، وأسهب فيه عن تاريخ المسلمين المتسامح، وإسهاماتهم الحضارية والعلمية. وأكّد أنّ الخطر يحدث، حينما نتبنى النظرة عن هوية الطرف الآخر من خلال تعريف ذاتنا لهم، فمثلاً لم يكن اليهود، بطبيعة الحال، هم الموجودين في كتب النازيين، ولا منشوراتهم. وبالطبع، لم يكن المسلمون الهنود أولئك الموجودين في منشورات الهندوس وليس العكس. ومن الغباء أن تختزل الإنسان في هوية واحدة، ومن الغباء الأكثر أن تصدّق أنّ هوية الشخص الآخر هي ما يتم ترويجه لدى خصومه.
وكان سن قد شهد، في طفولته الباكرة، صراعاً بين المسلمين والهندوس في بلدته، راح ضحيته كثيرون. ولكن العامل المسلم الذي انتهى به المطاف في حديقة أسرة أمارتيا، ثم مات قبل أن يوصله والد أمارتيا إلى المستشفى، ترك ندوباً في مشاعر الطفل الصغير، وكانت هذه الحادثة حافزه لتحليل مشاعر العنف المنضوي تحت الاعتقادات المختلفة.
يذهب العالم، في خطوط متوازية، حيث يزداد إيماناً وعنفاً في الوقت نفسه، فإيمان تارانت