28 يناير 2024
حارس الحذاء
لم يفلح، طوال عمره، في قمع الطاغية الصغير المستبدّ في عروقه، فقد فتنته صورة رئيسه التي تفتّحت عينه عليها، منذ كان طفلاً، وإذا كانت أمه نجحت بفطامه عن الحليب، فإن الزمن لم ينجح بعلاجه من الإدمان على حب السلطة الذي رافقه في منعطفات حياته كلها.
والحال أنه لم يقمع الطاغية في أعماقه، تماماً. فقط سمح له بالظهور على إخوته، ذكوراً وإناثاً، إذ كان يتلذّذ بممارسة استبداده، وفرض طاعته وتقديسه عليهم، وتوزيع مهمات خدمته، بما يتلاءم ومهارة كل واحد منهم، من تلميع الأحذية وإعداد المائدة، ومشروباته كلها، الباردة والساخنة، وكيِّ ثيابه، وتقليم أظافره في مواعيدها، وغسل جواربه، إلى الحد الذي لم يعد معه مضطراً لفعل أي شيء بيديه. كما كان يفرض عليهم، في أثناء تغيّب والديه عن المنزل، أن يصطفوا معاً، ليتبختر بمشيته العسكرية من أمامهم ذهاباً وإياباً، متذكّراً هيئة الزعيم لدى استعراضه حرس الشرف، فقد كان مولعاً بهذا المشهد.
كان من المنطقي أيضاً، وهو على هذه الشاكلة من حب السلطة، أن يكون أول عمل جزئي يزاوله حين بلغ سن الرشد، مراجعة دائرة المخابرات في بلده، عارضاً عليهم خدماته، ولا حاجة للقول إن هذا العمل، المعتمد أساساً على تلفيق التقارير المزورة، منحه مزيداً من الانتفاخ الذي بات يصعب لجمه، لأنه يلبي قسطاً يسيراً من رغبته بالاستبداد، وخصوصاً أنه كان يتعمّد إظهار علاقته بالمخابرات بين أقرانه في الجامعة والحيّ الذي يقطنه، وكانت بهجته لا توصف، حين يلمح ذلك الرعب الذي يومض في أعينهم، لدى اقتحامه حلقات خلوتهم في كافتيريا الجامعة، أو بين أشجارها ومقاعدها.
ولأنه أثبت جدارة فائقة في الإيقاع بأكبر عدد من المعارف والأقارب بيد المخابرات، أصبح شخصاً محظياً لديهم، إلى الحد الذي استدعاه مدير الدائرة يوماً، ليشكره، وليشعره بأنه محط اهتمام المسؤولين فيها. وقد وجدها صاحبنا فرصة لا تعوّض لتحقيق رغبته التي أمدّته بأسباب الحياة، وهي العمل إلى جانب الرئيس المفتون به، والذي لم يترك زاوية في بيته فارغة من صوره. وبالفعل، تجرّأ وفاتح مدير الدائرة بهذه الرغبة، فوعده الأخير بأن يبذل أقصى ما يستطيع لدى رجالات القصر، لتحقيق أمنيته.
من حسن طالع صاحبنا، أن الأمر لم يطل طويلاً، إذ فوجئ ذات صباح بمكالمة خافتة من مدير المخابرات، تعلمه بالموافقة على عمله في القصر، وطلب منه أن يتكتم على الخبر، حتى عن أقرب الناس إليه، من دون أن يدري المدير أن لا أحد قريب فعلياً إلى قلب صاحبنا غير الرئيس فقط.
في اليوم المحدد، ارتدى الرجل أفضل ما لديه من ثياب، وهيّأ نفسه للّقاء الموعود في القصر، ومضى، وفي أعماقه يتناسل ألف طاغية مهيّأ للاستبداد، خصوصاً حين يتذكّر ما يعنيه وقع نبأ تعيينه على المحيطين به.
في القصر، وبعد أن انتظر طويلاً على باب قائد حرس الرئيس، سمح له بالدخول. تأمّله القائد طويلاً، لا سيما قدميه، حصراً، حتى ظن صاحبنا أنه انتعل حذاءً غير مناسب، فارتبك قليلاً، غير أن القائد هدّأ من روعه، وطلب منه الجلوس، وقال:
- باختصار، تم تعيينك لمهمة أسبوعية محدّدة، لا تتطلّب منك جهداً كبيراً، لكنها خطرة للغاية، وأي إهمال فيها سيكلّفك حياتك.
ظهرت أمارات القلق على وجه صاحبنا، قبل أن يكمل القائد:
- أنت تعلم أن الرئيس يواظب على أداء صلاة الجمعة في المسجد، وتعلم أن سيادته يكون مضطراً لخلع نعليه، قبل دخول المسجد، وما بين دخوله وخروجه، هناك فرق ساعة على الأقل، ولأننا نخشى من سرقة حذاء الزعيم، بما يعنيه ذلك من وضعه في حرج كبير لا يليق بفخامته، قرّرنا تعيينك حارساً للحذاء... تذكّر: حياتك لقاء حذاء.
والحال أنه لم يقمع الطاغية في أعماقه، تماماً. فقط سمح له بالظهور على إخوته، ذكوراً وإناثاً، إذ كان يتلذّذ بممارسة استبداده، وفرض طاعته وتقديسه عليهم، وتوزيع مهمات خدمته، بما يتلاءم ومهارة كل واحد منهم، من تلميع الأحذية وإعداد المائدة، ومشروباته كلها، الباردة والساخنة، وكيِّ ثيابه، وتقليم أظافره في مواعيدها، وغسل جواربه، إلى الحد الذي لم يعد معه مضطراً لفعل أي شيء بيديه. كما كان يفرض عليهم، في أثناء تغيّب والديه عن المنزل، أن يصطفوا معاً، ليتبختر بمشيته العسكرية من أمامهم ذهاباً وإياباً، متذكّراً هيئة الزعيم لدى استعراضه حرس الشرف، فقد كان مولعاً بهذا المشهد.
كان من المنطقي أيضاً، وهو على هذه الشاكلة من حب السلطة، أن يكون أول عمل جزئي يزاوله حين بلغ سن الرشد، مراجعة دائرة المخابرات في بلده، عارضاً عليهم خدماته، ولا حاجة للقول إن هذا العمل، المعتمد أساساً على تلفيق التقارير المزورة، منحه مزيداً من الانتفاخ الذي بات يصعب لجمه، لأنه يلبي قسطاً يسيراً من رغبته بالاستبداد، وخصوصاً أنه كان يتعمّد إظهار علاقته بالمخابرات بين أقرانه في الجامعة والحيّ الذي يقطنه، وكانت بهجته لا توصف، حين يلمح ذلك الرعب الذي يومض في أعينهم، لدى اقتحامه حلقات خلوتهم في كافتيريا الجامعة، أو بين أشجارها ومقاعدها.
ولأنه أثبت جدارة فائقة في الإيقاع بأكبر عدد من المعارف والأقارب بيد المخابرات، أصبح شخصاً محظياً لديهم، إلى الحد الذي استدعاه مدير الدائرة يوماً، ليشكره، وليشعره بأنه محط اهتمام المسؤولين فيها. وقد وجدها صاحبنا فرصة لا تعوّض لتحقيق رغبته التي أمدّته بأسباب الحياة، وهي العمل إلى جانب الرئيس المفتون به، والذي لم يترك زاوية في بيته فارغة من صوره. وبالفعل، تجرّأ وفاتح مدير الدائرة بهذه الرغبة، فوعده الأخير بأن يبذل أقصى ما يستطيع لدى رجالات القصر، لتحقيق أمنيته.
من حسن طالع صاحبنا، أن الأمر لم يطل طويلاً، إذ فوجئ ذات صباح بمكالمة خافتة من مدير المخابرات، تعلمه بالموافقة على عمله في القصر، وطلب منه أن يتكتم على الخبر، حتى عن أقرب الناس إليه، من دون أن يدري المدير أن لا أحد قريب فعلياً إلى قلب صاحبنا غير الرئيس فقط.
في اليوم المحدد، ارتدى الرجل أفضل ما لديه من ثياب، وهيّأ نفسه للّقاء الموعود في القصر، ومضى، وفي أعماقه يتناسل ألف طاغية مهيّأ للاستبداد، خصوصاً حين يتذكّر ما يعنيه وقع نبأ تعيينه على المحيطين به.
في القصر، وبعد أن انتظر طويلاً على باب قائد حرس الرئيس، سمح له بالدخول. تأمّله القائد طويلاً، لا سيما قدميه، حصراً، حتى ظن صاحبنا أنه انتعل حذاءً غير مناسب، فارتبك قليلاً، غير أن القائد هدّأ من روعه، وطلب منه الجلوس، وقال:
- باختصار، تم تعيينك لمهمة أسبوعية محدّدة، لا تتطلّب منك جهداً كبيراً، لكنها خطرة للغاية، وأي إهمال فيها سيكلّفك حياتك.
ظهرت أمارات القلق على وجه صاحبنا، قبل أن يكمل القائد:
- أنت تعلم أن الرئيس يواظب على أداء صلاة الجمعة في المسجد، وتعلم أن سيادته يكون مضطراً لخلع نعليه، قبل دخول المسجد، وما بين دخوله وخروجه، هناك فرق ساعة على الأقل، ولأننا نخشى من سرقة حذاء الزعيم، بما يعنيه ذلك من وضعه في حرج كبير لا يليق بفخامته، قرّرنا تعيينك حارساً للحذاء... تذكّر: حياتك لقاء حذاء.