حتى لا نعبد الشيطان
أيام قليلة تفصلنا عن الحج المبارك. أيام فقط قبل أن يتم إعدام الشيطان رجماً بكلِّ ما تراكم على أكتافنا من ذنوب شخصية وسياسية واجتماعية، طوال العام، وبكل ما اقترفناه من صنوف الخذلان بحق الأجساد العربية الممزقة في غزة وسورية والعراق.
هي مجرد أيام، قبل أن نجهز على شيطان واحدٍ، نقتل فيه سائر "الشياطين" الأخرى بكل أحجامها، بدءاً من "الشيطان الأكبر" الذي تجاوزت أساطيله وطائراته وحشوده مرحلة "الضيافة" إلى مرحلة "الإقامة" الدائمة على بحارنا وسمائنا وترابنا، وليس انتهاء بـ"الشيطان الأصغر" الذي ما فتئ يراودنا عن وحدتنا لصالح قطريتنا، وعن عروبتنا لصالح "صهيونتنا"، وعن "مصرنا" لصالح "فراعنتنا"، وعن إسلامنا لصالح "داعشنا"، و.. و..
أيام قليلة فقط، ونعود متحللين من آثامنا وخطايانا كما ولدتنا أمهاتنا، ومتخففين من عبء ضمائرنا، بل ومن ضمائرنا ذاتها، إذا كان الأمر يتعلق بأي التزام عربي، أو أخلاقي، تجاه أخ أو شقيق، بعد أن أعدمنا أسّ البلاء، واقتلعناه من جذوره، ممثلاً بـ"الشيطان".
نعود أبرياء وأنقياء من المعاصي والذنوب، كما ينقّى الثوب الأبيض من الدنس، لنبدأ دورة ذنوب جديدة، بانتظار التطهر منها في العام المقبل.
والحال أنني لا أدري متى سنكفّ عن تحميل هذا "المشجب" كلّ آثامنا وأوزارنا منذ "تفاحة" آدم إلى آبائنا الحاليين. ولعل جلّ ما أخشاه، أن يتحول الشيطان من رمز ديني إلى رمز "تنفيسي"، تحت وطأة قرون القمع التي بقرت الأجساد العربية ومزقت أحلامها وجغرافياتها إلى بضعة وعشرين شلواً، لا يجتمع منها غير وزراء داخليتها لتبادل أسماء المعارضين، والحفاظ على سلامة الحدود من أي "انتهاك وحدوي".
والأنكى أن بعض هذه الملايين التي تعلن بالغ غيظها وحقدها على "الشيطان" متواطئة، من حيث لا تدري، معه، ذلك أن كل هذا الغيظ والشتم والهياج، سرعان ما يتبدد لحظة عودتها إلى "مسالخها"، فتحل محل الغيظ وداعة مفرطة حيال السوط، وسكينة غريبة أمام "السكين"، وتسليم عجيب بـ"أقدار" تهميشها وجز أعناقها.
وأرجح أن "الشيطان" العربي ربما كان نتاج حالتي الضعف والتسلط معاً، وأعني أن هذا الشيطان ربما كان أحد المقترحات التي صاغها الجلاد والضحية، للحفاظ على معادلة التعايش الهش بينهما قائمةً، على قاعدة "لا يموت الذئب، ولا يفنى الغنم". وفي هذه الحالة، لا ترجم الضحية شيطانها، بل صورة الجلاد في ذهنها، في مقابل أن يواصل الأخير استبداده خارج أذهانها، فتتخلص الضحية، بالتالي، من فائض ضعفها وانكسارها، ويبقى (الغنم) حياً ووادعاً.
والمشكلة، هنا، أننا نمارس رجم الشيطان و"عبادته" معاً، وإلا فبماذا نفسر تحولنا إلى "زواحف" أمام شياطيننا الجاثمين على كراسي الحكم، أو، على الأقل، كيف نقبل بكل هذا الخضوع والخنوع والتهميش، بل وحتى استمراء القمع والاستبداد، أحياناً، واستدعائهما في حال افتقدناهما وهلة، كما حدث في مصر مثلاً.
وأيّ "شيزوفرينيا" تمزقنا، حين نرجم شيطاناً في مكة، ونعبد آخر في القاهرة أو دمشق أو أي عاصمة عربية أخرى، من دون أن نعترف أن لا فرق بين شيطان وآخر، وأن ملة "الشيطنة" واحدة، سواء قامت على الوسوسة أو على الاستبداد، بل إن الصنف الثاني أدهى وأخطر، لأنه شيطان يفسد شعباً بأكمله، ويحوله إلى قطيع يسبّح بحمده، بل ويعبده فعلياً، ولنا في مقاطع فيديو وصور مواطنين سوريين، وهم يسجدون لصور بشار الأسد، أكبر دليل على تلك العبادة.
هي مجرد أيام فقط، فهل نرجم مع شيطان مكة كل الشياطين الأخرى، قبل أن تحملنا على عبادتها؟ حينها فقط سيكون للحصاة التي نقذفها في وجوه شياطيننا قوة بحجم الحرية.