حدثني الجنرال جياب قال..

24 ابريل 2015

الجنرال جياب يجيب على أسئلة الكاتب

+ الخط -
ذهبت إلى فيتنام عام 2006 لتصوير قبر الفلسطيني أنور شهاب من قرية عنبتا، المدفون في هانوي في مقبرة للمقاتلين الفيتناميين الذين سقطوا في الحروب ضد الاستعمارين، الفرنسي والأميركي. كان الغريب الوحيد في تلك المقبرة، وقد منح هذا الشرف، لأنه فلسطيني، ولأن إسرائيل منعته من العودة إلى قريته حيّاً وميتاً.
كانت هذه الحكاية في إطار فيلمي الوثائقي عن قبور الفلسطينيين في الشتات. كنت أحمل معي في رحلتي إلى فيتنام كتاب "حربنا الشعبية هزمت حرب الإبادة الأميركية"، بنسخته العربية المترجمة في بيروت، لمؤلفه الجنرال فو نجوين جياب الذي تحوّل، بعد انتصار جيشه الشعبي على جيوش اليابانيين ثم الفرنسيين والأميركيين، خلال أكثر من ثلاثين عاماً من الحروب التي انتهت إلى الاستقلال وتوحيد فيتنام، تحول الجنرال إلى أسطورة قومية للفيتناميين. ولم أرغب بمغادرة هانوي من دون اللقاء بهذا الرجل العظيم الذي كانت أفكاره حول حرب الشعب ملهمة للفلسطينيين في بداية ثورتهم، كما لشعوب أخرى في العالم. وعلى الرغم من الوضع الصحي للجنرال، إذ كان في الخامسة والتسعين من العمر، استطعنا الحصول على فرصة للقاء به، فقد رحّب مساعده بنا، لأنني فلسطيني، لكنه طلب ألّا يتجاوز اللقاء ربع الساعة.
انتظرنا الجنرال جياب في صالون بيته المقدم له من الحزب الشيوعي الحاكم، والذي لا يملكه. وبعد دقائق، دخل الجنرال بكامل زيه العسكري ونياشينه، وهو يمسك بيد طفل عرفنا أنه أحد أحفاده. حدثته بالانكليزية، مبدياً سعادتي، وقلت له كم أنا ومحظوظ بلقاء قائد مثله، فابتسم خجلاً وتواضعاً، وقال إنه لا مانع لديه من التحدث بالانكليزية، على الرغم من أنه يفضل الفرنسية. كان الجنرال قصير القامة بشكل واضح، يداه صغيرتان كيديّ طفل، ذكرتني قامته ويداه وإشعاع عينيه على الرغم من العمر بياسر عرفات.
سألني الجنرال جياب عن الوضع الفلسطيني، ثم راح يتحدث عن حتمية انتصار الشعوب ضد الاستعمار، وسألته إذا علم برحيل عرفات، فقال "نعم وقد حزنّا لرحيل هذا القائد الوطني، وقد التقيته مرات. الأولى، في الجبال مع الرفيق هوشي منه الذي أرسل لي خصيصاً كي أنضم إليه للقاء قائد الحركة الوطنية الفلسطينية، ياسر عرفات، وقد سألني عرفات، في ذلك اللقاء، عن تجربة الشعب الفيتنامي، وخصوصاً في معركة دين بيان فو التي انتصر فيها شعبنا على الاستعمار الفرنسي، ليسجل أول انتصار لشعب محدود الإمكانات على قوة عسكرية طاغية".
أتذكر اليوم الجنرال جياب، بعد عامين على رحيله، وأنا أرى مآلات الثورات العربية، بما فيها الثورة الفلسطينية، وجنرالاتها. على مدار ساعة وربع الساعة، حيث تجاوزنا الوقت المحدد لنا في اللقاء معه برغبة منه، حدثنا الجنرال عن جميع المعارك الكبرى والمواجهات مع قوات المستعمرين الفرنسيين والأميركيين التي خاضها جيشه الشعبي، ثلاثين عاماً، بكل التضحيات والصعوبات. وحدثنا عن تفاصيل تلك المعارك، وهو كان القائد المباشر والمخطط الرئيس، لكننا لم نسمع منه طوال الجلسة مفردة "أنا". لم يقل فعلت وخططت، بل الرفاق والمقاتلون من فعل وناضل وقاتل، وذلك كله بتوجيهات الرفيق هوشي منه!
بدأ جيش الشعب الفيتنامي بمجموعةٍ، قوامها 34 رجلاً وامرأة، شكلها الجنرال عام 1944 في إحدى الغابات، وكان سلاحهم مؤلفاً من مسدسين ورشاش خفيف و17 بندقية، واستطاعوا تجنيد جيش قوامه الشعب الفيتنامي برمّته، حيث تكمن هناك بالضبط روح جياب وعظمته في العلوم العسكرية، من خلال تجنيد كل شرائح المجتمع للقتال ضد المستعمر.
وقّع لي الجنرال كتابه الذي حملته معي من بيروت. أتذكر، في هذا المدى الشاسع من الياْس حولنا، تجربة الجنرال الذي يطلق عليه شعبه لقب "البركان تحت الثلج"، وكلماته عن حتمية الانتصار، تتقاذفها ذاكرتي، فتظهر مرة وتختفي مرات.
دلالات
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.