12 اغسطس 2018
حدود الانفراج والتباين بين أميركا وكوريا الشمالية
بعد تصاعد حدّة التوتر في شبه الجزيرة الكورية خلال السنوات القليلة الماضية، بسبب إجراء كوريا الشمالية تجارب نووية عديدة اعتبرت الأكبر في تاريخها، وشكلت تحدّيا كبيرًا لشقيقتها كوريا الجنوبية وجارتها اليابان، والحليف الرئيس لهما في المنطقة، وهي الولايات المتحدة الأميركية، أعلن أخيرا الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أن قمة ستجمعه مع زعيم كوريا الشمالية، كيم جونغ أون، في سنغافورة في يونيو/ حزيران المقبل، غير أنه فاجأ العالم أمس الخميس بإعلان إلغاء هذه القمة، والتي كان قد أفاد حين استقبل الرئيس الكوري الجنوبي مون جي يوم 22 مايو/ أيار الجاري، في واشنطن، بأنه يمكن تأجيلها، مضيفًا: "لا نعرف بشأن هذه الاتفاقات، يمكن أن تنجح ويمكن أن يكون العكس"، على حد تعبيره، مشدّدًا على أن له "موقفًا قويًا بشأن نزع السلاح النووي في شبه الجزيرة الكورية". وقال إن لدى "كوريا الشمالية الفرصة لكي تكون بلدًا عظيمًا، ويجب أن تستغل الفرصة".
وكانت الولايات المتحدة الأميركية، وتحديداً في عهد إدارة الرئيس السابق جورج بوش الإبن، قد صنفت كوريا الشمالية في دول "محور الشر" التي شملت أيضًا آنذاك، العراق وإيران، وطالبت مجلس الأمن باتخاذ "تدابير قوية" ضد كوريا الشمالية، ردًّا على مواصلة إجرائها التجارب النووية، وإطلاقها الصواريخ الباليستية العابرة فوق بحر اليابان، لا سيما تطبيق الفصل السابع في ميثاق الأمم المتحدة، وهو الفصل الذي يعطي مجلس الأمن صلاحياتٍ واسعة، بما في ذلك اللجوء إلى الوسائل العسكرية، لمعالجة "التهديدات التي يتعرّض لها السلام أو لمعالجة عمليات عدائية"، والامتناع عن إجراء أي تجارب نووية أخرى، والتراجع عن قرارها الانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي. بيد أنّ كل هذه الإجراءات العقابية المطلوبة أميركيًا كانت تصطدم بمعارضة الحليف الوفي والقوي لكوريا الشمالية، وهو الصين التي كانت تدعو إلى إيجاد حل سلمي للأزمة في شبه الجزيرة الكورية ولا تزال، من خلال المفاوضات لتحقيق هدف إزالة الأسلحة النووية في شبه الجزيرة الكورية، وإحلال السلام والاستقرار فيها.
وفي السنة الأولى من عهد إدارة الرئيس الحالي دونالد ترامب، وصلت حدّة التوتر بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية إلى حدّ التهديد الصريح المتبادل باستخدام السلاح النووي. ومن هنا يتساءل المحللون والخبراء في مسائل شبه الجزيرة الكورية، بشأن التحول المفاجئ في التقارب بين واشنطن وبيونغ يونغ، وحدود الانفراج في شبه الجزيرة الكورية، نظرًا إلى تباين المواقف والمقاربات بين الولايات المتحدة وحليفتها في كوريا الجنوبية، فيما يتعلق بملف كوريا الشمالية.
تحدّي كوريا الشمالية
قد لا يختلف اثنان في عرف السياسة الدولية المعاصرة حول طبيعة النظام السياسي الذي يحكم
كوريا الشمالية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فلا تزال كوريا الشمالية تحكمها سلالة شيوعية من طبيعةٍ إقطاعيةٍ تجسّد آخر قلاع الستالينية في العالم، إذ لا يزال نظامها الشمولي متشبثا، وبإطلاقية، بكل ما تركته الستالينية من إرثٍ مناهض للحرية والديمقراطية. وعلى الرغم من نهاية الحرب الباردة، وسقوط النظام الدولي ثنائي القطبية (التحالف الأميركي – الأوروبي في مواجهة الاتحاد السوفييتي)، مع تفكّك المنظومة الاشتراكية وانهيار حلف وارسو في أوائل عقد التسعينيات من القرن العشرين، وانتقال العالم إلى نظام دولي جديد، أحادي القطبية بزعامة الولايات المتحدة الأميركية، قائدة العولمة الليبرالية، فإنّ النظام الكوري الشمالي، سواء في عهد حكم الأب كيم جونغ إيل، أو في عهد حكم الإبن كيم جونغ أون الذي درس في مدرسة خاصة في سويسرا، والتقى مع عديدين من جنسياتٍ مختلفة، ويتكلم الإنكليزية والفرنسية والألمانية، لم يتغير، وحافظ على بنيته الشمولية. وفوق ذلك كله، استمر في تحدّي المجتمع الدولي، ولا سيما الولايات المتحدة، حين حوّل كوريا الشمالية إلى قوةٍ نوويةٍ، هي العضو التاسع في نادي القوى النووية في العالم، وهو النادي الذي يجمع القوى النووية المعلنة، وكذلك الكيان الصهيوني.
شكلت التفجيرات النووية التي أجرتها كوريا الشمالية منذ أواسط عقد التسعينيات خرقًا للاتفاق بين الكوريتين الذي ينص على إخلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية، الموقع في عام 1992. وهو نتيجة منطقية للتصعيد العسكري الذي بدأ في أكتوبر/ تشرين الأول 2002، عندما انهارت اتفاقية الإطار عام 2002 التي شكلت حداً فاصلاً ومهماً، إذ كانت تؤمن هذه الاتفاقية احتواء لسياسة كوريا الشمالية النووية منذ 1994، وبعد أن اتهمت واشنطن بيونغ يونغ بمواصلة برنامجها السرّي لتخصيب اليورانيوم.
وكانت كوريا الشمالية قد انضمّت إلى معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية في عام 1985، غير أنّها لم توقع على الشق الخاص لإخضاع منشآتها لتفتيش وكالة الطاقة الذرية، إلاّ في عام 1992. ومع حلول ديسمبر/ كانون الأول 1993، أي بعد عام من توقيع الاتفاق مع وكالة الطاقة الذرية، أعلنت بيونغ يانغ عن انسحابها من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وكذلك الاتفاق مع وكالة الطاقة الذرية، فقد استندت في ذلك إلى ازدواجية المعايير من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، حيث إنّها لم تلتزم بالتفتيش على المنشآت النووية في الكيان الصهيوني وجنوب أفريقيا، إضافة إلى انصياعها للسياسة الاميركية بفرض تفتيش خاص على المنشآت الكورية الشمالية، بينما لم تخضع القدرات النووية الأميركية والأسلحة على أرض كوريا الجنوبية للتفتيش، وما يعنيه ذلك من تهديد لأمنها وسيادتها.
سعت كوريا الشمالية إلى دخول النادي النووي، عن طريق برنامج نووي عسكري، على الرغم من أنّه عَرَّضَهَا لمتاعب مع المجتمع الدولي، كما الحال مع إيران، ورفضت خيار برنامج نووي سلمي، تتولى منظمة الطاقة الإشراف عليه، ومراقبته بصورة دائمة، وتقديم المساعدات الفنية اللازمة له. ومن المعروف أنّ غالبية القوى النووية الجديدة، أي الواقعة خارج نادي الكبار، فضلت الخيار الأول الذي وصلت إليه بأساليب ملتوية، بدأت عادة بإقامة برنامج مدني، ثم انتهت إلى برنامج عسكري. وقد رأت هذه القوى، وأغلبها في منطقة جغرافية واحدة (آسيا الوسطى وشرق آسيا)، أنَّ امتلاك سلاح الردع أفضل لها من الناحية الاستراتيجية، من التوظيف النووي في الميدان السلمي، فالمشكلات التي تعيشها بسبب مخلفات صراعات الحرب الباردة، والخلافات الإثنية والحدودية، دفعتها إلى التأمين على النفس بوجه التهديدات التي يمثلها الجار الآخر، كما هو الحال بين الهند والصين، وباكستان والهند، وكوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، أو اليابان وجاراتها.
فقط دولتان من الدول غير الموقعة على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية انضمتا علناً إلى النادي النووي، الهند وباكستان، بعد إجرائهما تجارب وتفجيراتٍ نووية في عام 1998. أمّا الكيان الصهيوني الذي يتكتم على وضعه، ويرفض توقيع المعاهدة، فتؤكد التقارير أنه يمتلك ما لايقل عن مائتي رأس نووي. وأمّا كوريا الشمالية فقد اجتازت العتبة النووية، والحال هذه يبدو أنّ إيران يستهويها مسار النمط الكوري الشمالي. وفيما تُصِرُّ القوى النووية الكبرى، الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن (الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، روسيا، الصين)، على احتكار السلاح النووي، وتُعَارِضُ أن تمتلكه أي دولة أخرى، قامت دول عديدة بصناعة أسلحتها النووية، مثل الكيان الصهيوني والهند وجنوب أفريقيا وباكستان وكوريا الشمالية. وتمكّن بعضها من خرق القاعدة خلال فترة الحرب الباردة (الكيان الصهيوني وجنوب أفريقيا). وانتظر البعض الآخر حتى نهاية العقد الأخير من القرن العشرين، حتى ينجز مشروعه النووي العسكري، مثل الهند التي أعلنت امتلاكها القنبلة الذرية في بدايات مايو/ أيار سنة 1998، وباكستان التي تلتها بأيام معدودة. وحدها كوريا الشمالية انتظرت حتى سنة 2006، لكي تعلن استكمال برنامجها النووي العسكري.
فرص نجاح الانفراج
قد يصبح من المبالغة الحديث عن الانفراج وتحقيق تسوية تاريخية في شبه الجزيرة الكورية، بعد أن كان المجتمع الدولي ينتظر حربًا نوويةً، تكون لها تداعيات كارثية في كل العالم.
والحال هذه، تتطلب الرؤية الموضوعية تفحّص مواقف الأطراف التي لها علاقة مباشرة بالأزمة النووية، لا سيما منها كوريا الجنوبية والدول الإقليمية والدولية الأخرى.
وفي تطور مفاجئ، حصلت مؤخرًا القمة التي جمعت أخيرا بين الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون والرئيس الكوري الجنوبي مون جاي، خطوةً على طريق الحل الديبلوماسي للأزمة السائدة في شبه الجزيرة الكورية، على الرغم من شكوك بشأن مستقبل هذا التقارب بين الكوريتين، الشمالية والجنوبية، من جانب اليابان وأميركا، اللتين رفضتا، في البداية، الدخول في أي مفاوضاتٍ مع بيونغ يانغ، قبل أن تتخذ الأخيرة خطواتٍ ملموسةً بشأن نزع أسلحتها النووية، وإيقاف التجارب الصاروخية الباليستية، غير أنّ لدى كوريا الجنوبية، الحليفة القوية لكل من الولايات المتحدة واليابان، رؤيتها الخاصة في التعامل مع كوريا الشمالية، فهي تفضّل الانخراط بشكل أكبر في المفاوضات مع جارتها الشمالية، بهدف التوصل إلى تسويةٍ تاريخيةٍ محتملة في شبه الجزيرة الكورية، تنهي الحرب بين البلدين، وتطرح حلاً ديبلوماسيًا بشأن برنامج كوريا الشمالية النووي والصاروخي، وتفتح صفحة جديدة من التعاون بين الكوريتين، سيكون قابلاً للتمدد شمالاً، ليشمل مناطق أخرى في الصين وروسيا ومنغوليا، وجميع منطقة شمال شرق آسيا.
وإذا كان مقدّرًا لكوريا الجنوبية السيطرة على كامل شبه الجزيرة الكورية، للمرّة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بسبب ثقلها الاقتصادي والبشري وتقدمها التكنولوجي، فمن المفترض استرضاء الصين، الحليف القوي الذي يبقي النظام الكوري الشمالي على قيد الحياة، عبر تزويده بمواد غذائية ووقود. لذا، تخطّط كوريا الجنوبية منذ فترة لضمان وجود فرص تجارية واسعة أمام الشركات الصينية في كوريا الشمالية الغنية بالمعادن.
على الرغم من أنّ الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، يتبجح في خطابه السياسي بأن القمة الذي كانت ستجمعه مع الزعيم الكوري الشمالي جاءت نتيجة منطقية لسياسة النار والتهديد التي اتبعها منذ وصل إلى البيت الأبيض مع كوريا الشمالية، فإنّ الخبراء والمحللين في منطقة آسيا يرون إن الولايات المتحدة نفسها عاجزة عن ممارسة الخيار العسكري ضد نظام بيونغ يونغ، لدفعه إلى التراجع عن مواصلة إجراء تجاربه النووية، سيما في ظل مواجهة دولة نووية جديدة هي كوريا الشمالية، وفي ظل غياب التوافق على هذا الصعيد مع روسيا والصين اللتين لن تكونا شريكتين في توافقٍ ضاغطٍ على كوريا الشمالية، على الرغم من انتقادهما التحدّي الكوري، إذا ما لوحت واشنطن بالخيار العسكري.
وفضلاً عن ذلك، لا يوجد أي خيار عسكري واقعي ضد كوريا الشمالية، لعدة أسباب: أولا، إنّ كوريا الجنوبية واليابان لا تريدان حتى الحديث عن الخيار العسكري. ثانيا، لأنّ من الصعب جدا تحديد كل المراكز النووية والباليستية في كوريا الشمالية بدقة، وأخيرا، لأن بيونغ يونغ تمتلك القدرة على الردّ المباشر، وأصبحت على طريق بناء ترسانة نووية، تعتبرها رادعاً في وجه أي هجوم أميركي محتمل، فضلا عن أن سيول، عاصمة كوريا الجنوبية، هي على مرمى نيران المدفعية لكوريا الشمالية. ولن يكون للخيار العسكري مصداقية، إلافي حال التهديد المباشر، أو في حال نقل أسلحة نووية إلى بلد آخر.
أخيرًا، في المنظور الاستراتيجي،
دفعت سياسة التشدد والتهديد بالخيار العسكري كوريا الجنوبية، الحليفة الأولى للولايات المتحدة، في المنطقة نحو مزيدٍ من التقارب مع كوريا الشمالية، والانطلاق في طريق الحل الديبلوماسي بصورةٍ أحادية. والحال هذه، أصبح الخيار الواقعي أمام الرئيس دونالد ترامب استدراج زعيم كوريا الشمالية، كيم جونغ أون، إلى قمة تاريخية، لعله ينتزع منه تنازلاتٍ غير مسبوقة بشأن البرنامج النووي، في مقابل تقديم الولايات المتحدة الأميركية مساعدات اقتصادية كبيرة ومغرية لكوريا الشمالية، وذلك قبل إلغاء هذه القمة. وفي السياق، اعتبر ترامب أن مواقف زعيم كوريا الشمالية، كيم جون أون، "تتأثر" بالرئيس الصيني، تجي شي بينغ، قائلًا إن "مواقف كيم تغيرت بعد لقائه بالرئيس الصيني"، في إشارة إلى تأثير بكين على قرارات بيونغ يانغ بشأن برنامجها النووي.
ويعول ترامب، في نجاح القمة المرتقبة، على الدور الذي يمكن للصين أن تلعبه في التأثير على مواقف الزعيم الكوري الشمالي، لا سيما أنه (ترامب) يربط بين التقدم في المفاوضات الاقتصادية مع الصين بمدى حاجة الولايات المتحدة إلى مساعدة بكين في التعامل مع كوريا الشمالية وملفها النووي. إذ يقول ترامب: "عندما أفكر في التجارة مع الصين، أفكر أيضًا في ما يفعلونه لمساعدتنا في السلام مع كوريا الشمالية وهذا عنصر مهم للغاية". بينما يرى زعيم كوريا الشمالية أن قبول ترامب بعقد قمة بينهما يعد اعترافًا أميركيًا صريحًا بشرعية كوريا الشمالية، وقدرات بيونغ يانغ النووية، وأن إدارة ترامب أصبحت تتعامل مع كوريا الشمالية المسلحة نوويا باحترام.
هل سينجح ترامب في انتزاع تنازلاتٍ من الزعيم الكوري الشمالي؟ من الصعب الحكم على نجاح هذا الموضوع، في ظل بقاء الإرث التاريخي من العداء المتبادل بين البلدين، طوال عقود، لا سيما أن الكونغرس الأميركي يعتقد أن نظام كوريا الشمالية شمولي ومعاد للولايات المتحدة، ولا يمكن الوثوق به.
وكانت الولايات المتحدة الأميركية، وتحديداً في عهد إدارة الرئيس السابق جورج بوش الإبن، قد صنفت كوريا الشمالية في دول "محور الشر" التي شملت أيضًا آنذاك، العراق وإيران، وطالبت مجلس الأمن باتخاذ "تدابير قوية" ضد كوريا الشمالية، ردًّا على مواصلة إجرائها التجارب النووية، وإطلاقها الصواريخ الباليستية العابرة فوق بحر اليابان، لا سيما تطبيق الفصل السابع في ميثاق الأمم المتحدة، وهو الفصل الذي يعطي مجلس الأمن صلاحياتٍ واسعة، بما في ذلك اللجوء إلى الوسائل العسكرية، لمعالجة "التهديدات التي يتعرّض لها السلام أو لمعالجة عمليات عدائية"، والامتناع عن إجراء أي تجارب نووية أخرى، والتراجع عن قرارها الانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي. بيد أنّ كل هذه الإجراءات العقابية المطلوبة أميركيًا كانت تصطدم بمعارضة الحليف الوفي والقوي لكوريا الشمالية، وهو الصين التي كانت تدعو إلى إيجاد حل سلمي للأزمة في شبه الجزيرة الكورية ولا تزال، من خلال المفاوضات لتحقيق هدف إزالة الأسلحة النووية في شبه الجزيرة الكورية، وإحلال السلام والاستقرار فيها.
وفي السنة الأولى من عهد إدارة الرئيس الحالي دونالد ترامب، وصلت حدّة التوتر بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية إلى حدّ التهديد الصريح المتبادل باستخدام السلاح النووي. ومن هنا يتساءل المحللون والخبراء في مسائل شبه الجزيرة الكورية، بشأن التحول المفاجئ في التقارب بين واشنطن وبيونغ يونغ، وحدود الانفراج في شبه الجزيرة الكورية، نظرًا إلى تباين المواقف والمقاربات بين الولايات المتحدة وحليفتها في كوريا الجنوبية، فيما يتعلق بملف كوريا الشمالية.
تحدّي كوريا الشمالية
قد لا يختلف اثنان في عرف السياسة الدولية المعاصرة حول طبيعة النظام السياسي الذي يحكم
شكلت التفجيرات النووية التي أجرتها كوريا الشمالية منذ أواسط عقد التسعينيات خرقًا للاتفاق بين الكوريتين الذي ينص على إخلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية، الموقع في عام 1992. وهو نتيجة منطقية للتصعيد العسكري الذي بدأ في أكتوبر/ تشرين الأول 2002، عندما انهارت اتفاقية الإطار عام 2002 التي شكلت حداً فاصلاً ومهماً، إذ كانت تؤمن هذه الاتفاقية احتواء لسياسة كوريا الشمالية النووية منذ 1994، وبعد أن اتهمت واشنطن بيونغ يونغ بمواصلة برنامجها السرّي لتخصيب اليورانيوم.
وكانت كوريا الشمالية قد انضمّت إلى معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية في عام 1985، غير أنّها لم توقع على الشق الخاص لإخضاع منشآتها لتفتيش وكالة الطاقة الذرية، إلاّ في عام 1992. ومع حلول ديسمبر/ كانون الأول 1993، أي بعد عام من توقيع الاتفاق مع وكالة الطاقة الذرية، أعلنت بيونغ يانغ عن انسحابها من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وكذلك الاتفاق مع وكالة الطاقة الذرية، فقد استندت في ذلك إلى ازدواجية المعايير من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، حيث إنّها لم تلتزم بالتفتيش على المنشآت النووية في الكيان الصهيوني وجنوب أفريقيا، إضافة إلى انصياعها للسياسة الاميركية بفرض تفتيش خاص على المنشآت الكورية الشمالية، بينما لم تخضع القدرات النووية الأميركية والأسلحة على أرض كوريا الجنوبية للتفتيش، وما يعنيه ذلك من تهديد لأمنها وسيادتها.
سعت كوريا الشمالية إلى دخول النادي النووي، عن طريق برنامج نووي عسكري، على الرغم من أنّه عَرَّضَهَا لمتاعب مع المجتمع الدولي، كما الحال مع إيران، ورفضت خيار برنامج نووي سلمي، تتولى منظمة الطاقة الإشراف عليه، ومراقبته بصورة دائمة، وتقديم المساعدات الفنية اللازمة له. ومن المعروف أنّ غالبية القوى النووية الجديدة، أي الواقعة خارج نادي الكبار، فضلت الخيار الأول الذي وصلت إليه بأساليب ملتوية، بدأت عادة بإقامة برنامج مدني، ثم انتهت إلى برنامج عسكري. وقد رأت هذه القوى، وأغلبها في منطقة جغرافية واحدة (آسيا الوسطى وشرق آسيا)، أنَّ امتلاك سلاح الردع أفضل لها من الناحية الاستراتيجية، من التوظيف النووي في الميدان السلمي، فالمشكلات التي تعيشها بسبب مخلفات صراعات الحرب الباردة، والخلافات الإثنية والحدودية، دفعتها إلى التأمين على النفس بوجه التهديدات التي يمثلها الجار الآخر، كما هو الحال بين الهند والصين، وباكستان والهند، وكوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، أو اليابان وجاراتها.
فقط دولتان من الدول غير الموقعة على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية انضمتا علناً إلى النادي النووي، الهند وباكستان، بعد إجرائهما تجارب وتفجيراتٍ نووية في عام 1998. أمّا الكيان الصهيوني الذي يتكتم على وضعه، ويرفض توقيع المعاهدة، فتؤكد التقارير أنه يمتلك ما لايقل عن مائتي رأس نووي. وأمّا كوريا الشمالية فقد اجتازت العتبة النووية، والحال هذه يبدو أنّ إيران يستهويها مسار النمط الكوري الشمالي. وفيما تُصِرُّ القوى النووية الكبرى، الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن (الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، روسيا، الصين)، على احتكار السلاح النووي، وتُعَارِضُ أن تمتلكه أي دولة أخرى، قامت دول عديدة بصناعة أسلحتها النووية، مثل الكيان الصهيوني والهند وجنوب أفريقيا وباكستان وكوريا الشمالية. وتمكّن بعضها من خرق القاعدة خلال فترة الحرب الباردة (الكيان الصهيوني وجنوب أفريقيا). وانتظر البعض الآخر حتى نهاية العقد الأخير من القرن العشرين، حتى ينجز مشروعه النووي العسكري، مثل الهند التي أعلنت امتلاكها القنبلة الذرية في بدايات مايو/ أيار سنة 1998، وباكستان التي تلتها بأيام معدودة. وحدها كوريا الشمالية انتظرت حتى سنة 2006، لكي تعلن استكمال برنامجها النووي العسكري.
فرص نجاح الانفراج
قد يصبح من المبالغة الحديث عن الانفراج وتحقيق تسوية تاريخية في شبه الجزيرة الكورية، بعد أن كان المجتمع الدولي ينتظر حربًا نوويةً، تكون لها تداعيات كارثية في كل العالم.
وفي تطور مفاجئ، حصلت مؤخرًا القمة التي جمعت أخيرا بين الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون والرئيس الكوري الجنوبي مون جاي، خطوةً على طريق الحل الديبلوماسي للأزمة السائدة في شبه الجزيرة الكورية، على الرغم من شكوك بشأن مستقبل هذا التقارب بين الكوريتين، الشمالية والجنوبية، من جانب اليابان وأميركا، اللتين رفضتا، في البداية، الدخول في أي مفاوضاتٍ مع بيونغ يانغ، قبل أن تتخذ الأخيرة خطواتٍ ملموسةً بشأن نزع أسلحتها النووية، وإيقاف التجارب الصاروخية الباليستية، غير أنّ لدى كوريا الجنوبية، الحليفة القوية لكل من الولايات المتحدة واليابان، رؤيتها الخاصة في التعامل مع كوريا الشمالية، فهي تفضّل الانخراط بشكل أكبر في المفاوضات مع جارتها الشمالية، بهدف التوصل إلى تسويةٍ تاريخيةٍ محتملة في شبه الجزيرة الكورية، تنهي الحرب بين البلدين، وتطرح حلاً ديبلوماسيًا بشأن برنامج كوريا الشمالية النووي والصاروخي، وتفتح صفحة جديدة من التعاون بين الكوريتين، سيكون قابلاً للتمدد شمالاً، ليشمل مناطق أخرى في الصين وروسيا ومنغوليا، وجميع منطقة شمال شرق آسيا.
وإذا كان مقدّرًا لكوريا الجنوبية السيطرة على كامل شبه الجزيرة الكورية، للمرّة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بسبب ثقلها الاقتصادي والبشري وتقدمها التكنولوجي، فمن المفترض استرضاء الصين، الحليف القوي الذي يبقي النظام الكوري الشمالي على قيد الحياة، عبر تزويده بمواد غذائية ووقود. لذا، تخطّط كوريا الجنوبية منذ فترة لضمان وجود فرص تجارية واسعة أمام الشركات الصينية في كوريا الشمالية الغنية بالمعادن.
على الرغم من أنّ الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، يتبجح في خطابه السياسي بأن القمة الذي كانت ستجمعه مع الزعيم الكوري الشمالي جاءت نتيجة منطقية لسياسة النار والتهديد التي اتبعها منذ وصل إلى البيت الأبيض مع كوريا الشمالية، فإنّ الخبراء والمحللين في منطقة آسيا يرون إن الولايات المتحدة نفسها عاجزة عن ممارسة الخيار العسكري ضد نظام بيونغ يونغ، لدفعه إلى التراجع عن مواصلة إجراء تجاربه النووية، سيما في ظل مواجهة دولة نووية جديدة هي كوريا الشمالية، وفي ظل غياب التوافق على هذا الصعيد مع روسيا والصين اللتين لن تكونا شريكتين في توافقٍ ضاغطٍ على كوريا الشمالية، على الرغم من انتقادهما التحدّي الكوري، إذا ما لوحت واشنطن بالخيار العسكري.
وفضلاً عن ذلك، لا يوجد أي خيار عسكري واقعي ضد كوريا الشمالية، لعدة أسباب: أولا، إنّ كوريا الجنوبية واليابان لا تريدان حتى الحديث عن الخيار العسكري. ثانيا، لأنّ من الصعب جدا تحديد كل المراكز النووية والباليستية في كوريا الشمالية بدقة، وأخيرا، لأن بيونغ يونغ تمتلك القدرة على الردّ المباشر، وأصبحت على طريق بناء ترسانة نووية، تعتبرها رادعاً في وجه أي هجوم أميركي محتمل، فضلا عن أن سيول، عاصمة كوريا الجنوبية، هي على مرمى نيران المدفعية لكوريا الشمالية. ولن يكون للخيار العسكري مصداقية، إلافي حال التهديد المباشر، أو في حال نقل أسلحة نووية إلى بلد آخر.
أخيرًا، في المنظور الاستراتيجي،
ويعول ترامب، في نجاح القمة المرتقبة، على الدور الذي يمكن للصين أن تلعبه في التأثير على مواقف الزعيم الكوري الشمالي، لا سيما أنه (ترامب) يربط بين التقدم في المفاوضات الاقتصادية مع الصين بمدى حاجة الولايات المتحدة إلى مساعدة بكين في التعامل مع كوريا الشمالية وملفها النووي. إذ يقول ترامب: "عندما أفكر في التجارة مع الصين، أفكر أيضًا في ما يفعلونه لمساعدتنا في السلام مع كوريا الشمالية وهذا عنصر مهم للغاية". بينما يرى زعيم كوريا الشمالية أن قبول ترامب بعقد قمة بينهما يعد اعترافًا أميركيًا صريحًا بشرعية كوريا الشمالية، وقدرات بيونغ يانغ النووية، وأن إدارة ترامب أصبحت تتعامل مع كوريا الشمالية المسلحة نوويا باحترام.
هل سينجح ترامب في انتزاع تنازلاتٍ من الزعيم الكوري الشمالي؟ من الصعب الحكم على نجاح هذا الموضوع، في ظل بقاء الإرث التاريخي من العداء المتبادل بين البلدين، طوال عقود، لا سيما أن الكونغرس الأميركي يعتقد أن نظام كوريا الشمالية شمولي ومعاد للولايات المتحدة، ولا يمكن الوثوق به.