الغضب الذي بات له وجوه وأسماء وهتافات تلوّن وجه المدينة الباهت منذ إعادة إعمارها، لم ينفجر صدفة. لم يأت كل هذا البؤس فجأة، من تجمّع مدني، ولا من هاشتاغ، ولا من نفايات مكدسة او محترقة. لكل من هؤلاء الموجودين هنا، قصته مع هذه المدينة، خيبة، حلم، علاقة معلّقة، او تأشيرة لا تأتي. آلاف القصص الشخصية جداً، تصنع بيروت اليوم. جيل آخر تماماً، لا تبهره ناطحات السحاب التي تخنق الواجهة البحرية، ولا المطاعم الفاخرة في وسط بيروت... جيل يعيد تكوين هوية المدينة. كل هذا الحراك، آلاف القصص الشخصية، بين أصحابها وبين هذه المدينة.
****************
"بدي فوت على قلب الثورة" تقول زينب، وهي تمسكني من يدي. تسحبني إلى الصف الأمامي، مع "الهتيفة". زينب أكثرنا تفاؤلاً. منذ 22 آب، وهي تقول كلاماً كثيراً عن "بيروت الحلوة كتير". ستذهب إلى فرنسا، قريباً... بعد أيام، لتبحث عن حياة أخرى هناك. "بيروت الحلوة كتير" غيّرت زينب. أنا لم أعرفها في حياتها الأولى، لكن بيننا مشتركات كثيرة لا نتحدّث فيها، لكنّي أراها، في كل مرة اقابل زينب أو في كل مرة تشكو من تقلباتها النفسية، والشخصية. انتظرنا سفر زينب أشهراً، وعندما اقترب الموعد لم تعد تريد السفر. "بيروت حلوة كتير، بديش سافر". نسخر منها، نصفها بـ"البومة"، ونؤنّبها ــ هلال يهدّدها ــ فخيار السفر كان أملنا كلنا، في السنوات العشر الأخيرة. السنوات التي اكتشف فيها اغلبنا بيروت الجديدة. بيروت ما بعد العام 2005. السنوات الأولى التي تلت اغتيال رفيق الحريري، كانت سنوات "عمرنا"، سنوات بداياتنا في الصحافة، في العمل، في اكتشاف تفاصيل المدينة وإيقاعها. لم تكن بيروت "حلوة"، كانت فقط مختلفة، غريبة ومغرية. بهت الغراء، وباتت المدينة عبئاً. عبئاً خانقاً، بالتلوّث، بالزحمة، بالغلاء المنهك، بهامشها الصغير، وبضيقها بالنماذج "المختلفة".
"كيف بدي سافر؟" تسأل زينب، "بديش روح... في شي كتير حلو عمبصير.. بديش سافر".
***************
عام 2007، الفتاة الشقراء (جداً) بالخواتم الكثيرة، تنضم إلى فريق "شباب" في الصحيفة. كائن غريب، بلهجة غريبة، وبمواقف مخيفة: تصل إلى المكتب، تزيل الصور القديمة عن الحائط، وترفع صورها: جان بول سارتر، كارل ماركس، جورج حبش (على ما أذكر)... وتضع جانباً كتاباً لميشال فوكو. كانت ديما تنتظر يوم الجمعة، ينتهي النهار، تحمل حقيبة ظهرها، وتركض نحو الباص الذي سيقلها إلى الميناء، مدينتها الشمالية. "السهرة بالكافا" (اسم حانة طرابلسية). حوّلت ديما طرابلس والميناء إلى منطقة ساحرة. أسمعها تتكلم عن حياتها هناك، عن اصدقائها، عن عملها القديم، عن نشاط الحزب الشيوعي، واتحاد الشباب الديمقراطي.. وعن علاقات عابرة. سرقت بيروت ديما. بدأت تمر الأيام، صارت ديما تكتشف هي أيضاً حياتها الأخرى هنا: الحمرا، صوفيل، الجميزة... لم تعد تركض إلى باص الجمعة. أحبّت في بيروت، وتزوّجت هنا. لم يرض زواجها الأهل. طيّب، سيهدأون. احتفظت ديما بلهجة طرابلسية مضحكة، لهجة تعبر فوق الضجيج البيروتي، بسلاسة وبسحر غريبين. استغنت عن كلمات غير مفهومة، تخرج منها فقط عندما تغضب. بيروت جعلتها كائناً أكثر راديكالية: هذا هو شكل حياتي، وهكذا اريده.
29 آب، تشتم ديما على مقربة من ساحة الشهداء. لن تقترب أكثر قد يخنقها الربو. لكنها تهتف، تعيد شتم الوزير إياه... ثم تضيع، ستكون مع هلال في مكان ما. يتناقشان بكتاب ميشال فوكو الأرجح.
*******
أريد أن أصوّر تقريراً عن الكتّاب الشباب في معرض بيروت للكتاب، اقترح على رئيس تحرير النشرة الإخبارية. اخترت الموضوع فقط لألتقي بهلال. كنت أعرفه جيداً، لم نلتق ولا مرة، لم نتحدث ولا مرة، لكني كنت أعرفه. يكتب أشياء مختلفة، في الصحف، وعلى "فيسبوك". يجب أن أقابله، كان جزءاً من المدينة في رأسي، رغم انتقاله للعيش والعمل في دبي. تعثّر مكان اللقاء، "نلتقي في الشارع، آخذ منك حديثاً قصيراً". على قارعة الطريق أمام مدخل صالة سينما التقينا. لا أذكر ماذا سألته، ولا أذكر ماذا قلت في التقرير، لكن بعدها بات هلال جزءاً من "البوصلة". انتظر تقييمه للأحداث، لأتخذ موقفي منها. أعرض عليه قراءة المقالات قبل إرسالها. ثمّ كانت تلك العبارة "ما عهدناكِ هكذا"، لا أذكر إن كان قالها لي، أم كتبها لي، بعد 30 يونيو، وموجة الفرح التي غمرتني وقتها في القاهرة. نغّص عليّ بهجة الشارع الذي يهتف ضد رئيس. في مطعم إيطالي في الزمالك تكلم كثيراً، عن 25 يناير، و30 يونيو التي لا تشبهها. في الثالث من يوليو، كانت العبارة تتكرّر في كل مرة شعرت بنشوة عزل محمد مرسي.
******
لا نحتاج إلى مدن بديلة. ذهولنا بالقاهرة وتونس... يخفت. بيروت هنا تنسينا خيباتنا العربية. يمشي حراكها على إيقاعنا. هذا معنا. وهذا أيضاً. من أين جاءوا؟ . لم يأت كل هذا البؤس فجأة، من تجمّع مدني، ولا من هاشتاغ، ولا من نفايات مكدسة او محترقة. قصصنا الشخصية، وحقدنا على جيل آخر، رمى علينا كل عبء الحرب وما بعدها وما بعد بعد بعدها. هذا جيل آخر، جيل لم يأت بؤسه فقط من أكياس النفايات المكدسة.
اقرأ أيضاً: حراك بيروت... القتل برصاصة الانتخابات