لا تزال كتابة تاريخ الثورة الجزائرية تثير الجدل، ليس في الجزائر وحدها، ولكن في فرنسا كذلك، ربما لأن الأمر يتعلّق بأحداث قريبة لا زال فاعلون فيها أحياء باستطاعتهم التعليق على الأطروحات أو رفضها أو "مقاومتها"، فضلاً عن أن الثورة أخذت بعداً أسطورياً وعاطفياً يُدخل كل مقاربة من الجانب الجزائري غير متحمّسة للخطاب الرسمي في خانة الخيانة.
وربما كان ذلك من ترسّبات آليات المقاومة التي اعتمدتها الثورة نفسها في مواجهة البروباغندا الاستعمارية التي استخدمت كتابات تاريخية وأدبية لخدمة أغراضها.
لا تزال هذه الآلة تشتغل إلى اليوم في الضفّة الشمالية بدليل ترويج وسائل إعلام فرنسية لكتّاب يمجّدون الفترة الكولونيالية في صورة بوعلام صنصال، الذي شبّه مؤخّراً اعتداء نيس بأحداث "معركة الجزائر"، في مقابل تجاهلها كتّاباً يرفضون الأيديولوجيا الاستعمارية، رغم جودة نصوصهم، مثل رشيد بوجدرة.
وإذا كان عالم الاجتماع، الهواري عدي، يربط صعوبة المناقشة العلنية للماضي بكون النظام السياسي نفسه يمثّل نتاج هذا التاريخ؛ حيث كانت النخب السياسية أطرافاً في الصراعات المكبوتة داخل "جبهة التحرير"، فإنه يرفض، من جهة أخرى، الروايات المضادّة التي تعمد إلى تسفيه وجوه ثورية من باب معارضتها للسلطة، أو بسبب انتسابها إلى الحكم في مرحلة الاستقلال.
والأمر هنا لا يتعلّق بخاصيّة جزائرية، فكل النخب السياسية الخارجة من الحروب تريد فرض روايتها للأحداث. وفي الحالة الجزائرية، لا تواجه كتابة التاريخ مزاج شخصيّات سياسية فحسب، ولكنها تواجه، أيضاً، حالة إنكار من الطرف الآخر متمّثلاً في القوة الاستعماريّة التي لا زالت إلى اليوم ترفض الاعتراف بجرائمها، وفوق ذلك تسعى إلى تلطيفها من خلال سن نصوص كقانون تمجيد الاستعمار الذي أشعل حرب الذاكرة بين البلدين، كما ترفض الإفراج عن الأرشيف الذي يتضمّن أدلّة إدانة ضدّها.
معروفٌ أن الكتابات التي تناولت ثورة التحرير كُتبت، في معظمها، من طرف مؤرّخين فرنسيين يُشهد لهم بالنزاهة. لكن بالحذر الذي تُراعى فيه التوازنات السياسية، فمؤرّخ مثل بنيامين ستورا، الذي يُعدّ من أبرز مؤرّخي الثورة، وإن قدّم عملاً تأريخياً كبيراً، إلا أنّه تفادى القضايا الصادمة، ونجده يصل إلى حدّ التناقض في معالجته لبعض المسائل كمواقف يهود الجزائر من الاحتلال، كما في كتابه: "العثور على المفاتيح: طفولة يهودية في قسنطينة"، الذي ينفي فيه وجود قرائن تثبت مساعدة يهود قسنطينة الاحتلال الفرنسي. لكنه يصف بدقّة على بُعد صفحات قليلة كيف كان الجنود الفرنسيون يطلقون النّار من نافذة بيته في قسنطينة على العرب.
اللافت أن العلاقات الجزائرية الفرنسية الراهنة، والمتّسمة بتعقيد يُحيل إلى أن الحرب لا زالت جارية في الذاكرة وعلى مستويات رمزية، تجعل من كتابة تاريخ ثورة التحرير أمراً شاقّاً؛ لأن المؤرّخ لا يواجه مادّة تاريخية فحسب، بل يواجه واقعاً سياسياً يحاول اللاّعبون فيه استخدام التاريخ لأغراض راهنة.