ورأى البعض في خطوة ترامب هذه حرباً استباقية على القضاء، تحسباً لاستحقاقات مقبلة تتعلّق بالتحقيقات في التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية التي يشرف عليها المحقّق الخاص روبرت مولر، وربطها آخرون بتوقعات صدور لوائح اتهام جديدة في الأيام القليلة المقبلة عن السلطات القضائية الفدرالية الأميركية ضد مسؤولين آخرين في فريقه بعد احتجاز بول مانفورت، مدير الحملة الانتخابية وشريكه ريك غايتس، واعتراف مستشار الحملة لشؤون السياسة الخارجية جورج بابادوبولس أنه التقى شخصيات روسية قريبة من الكرملين، ما قد يعتبر قرينة أولية على ثبوت شبهة الاختراق الروسي لحملة ترامب.
لا يعني ذلك أن المعركة بين البيت الأبيض والقضاء تقتصر على ملفات التحقيقات في الخرق الروسي لحملة ترامب، وهذه ليست قليلة، بل تتعدى ذلك بكثير. إذ يحمل الرئيس، القادم إلى السياسة من باب الأعمال وعقد الصفقات التجارية، أجندة اليمين الأميركي المحافظ والمجموعات المتطرفة عنصرياً، وهي أجندة معادية للمهاجرين واللاجئين، وتتبنى قوانين وقيم الحرب في التعامل مع القضايا المتعلقة بالإرهاب والأمن القومي الأميركي.
فالمعركة مع السلطات القضائية التي تمثّل ثالت سلطة في البلاد بعد السلطتين التنفيذية والتشريعية، هي من وجهة نظر أنصار ترامب استكمال للمواجهة المتواصلة مع "الإستبلشمنت" المهيمن في واشنطن الذي يضع العراقيل أمام الإدارة الجديدة وخططها "لجعل أميركا عظيمة مجدداً".
بهذا المعنى، فإن معركة القضاء هي معركة كسر عظم، إذ تهدف أجندة ترامب إلى إلغاء التغييرات والتعديلات كافة التي دخلت على الجسم القضائي الأميركي إبان إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، وخصوصا في ما يتعلّق بقوانين الهجرة والسجون والقضايا الاجتماعية الخلافية بين القيم الليبرالية والقيم المحافظة المتعلقة بحقوق المرأة والإجهاض وزواج المثليين وغيرها.
وفي ما يتعلّق بما يعرف بـ "الحرب الأهلية" بين رجال الشرطة البيض والأقلية ذات الأصول الأفريقية، يتبنّى ترامب وجهة نظر حاسمة في الوقوف إلى جانب رجال الشرطة، ويرفض اتهامها بالعنصرية ويدعو إلى تعزيز قدرات الشرطة الأميركية وتسليحها بما تحتاجه من أسلحة لحفظ الأمن وحماية المواطنين الأميركيين.
وتوالت الضربات على إدارة ترامب من قبل القضاء الأميركي منذ الأيام الأولى لتوليه مهامه في البيت الأبيض، من خلال حركة التمرد التي شهدتها وزارة العدل مع استقالة القائمة بأعمال المدعي العام، وغيرها من الموظفين في السلك القضائي، احتجاجاً على قرارات اعتبروها غير دستورية. ثمّ جاء تعطيل القضاء لقرار ترامب التنفيذي بمنع دخول رعايا عدد من الدول الإسلامية إلى الولايات المتحدة، وهو ما اعتبرته المحاكم الأميركية خرقاً للدستور الأميركي الذي يمنع التمييز بين الأشخاص على أساس ديني أو عرقي. وفي هذه القضايا يراهن ترامب على المحكمة الدستورية العليا التي يعود لها البت النهائي بالقوانين التي تثير جدلاً.
وبات من شبه المؤكّد أن نظام القرعة الذي تعتمده دائرة الهجرة الأميركية لمنح مواطني عدد من الدول الأجنبية بطاقات الإقامة الدائمة في الولايات المتحدة، سيكون في طليعة ضحايا الإجراءات الجديدة التي أعلن عنها ترامب، رداً على عملية الدهس في مانهاتن التي نفذها الأوزبكي سيف الله سايبوف الذي كان قد دخل إلى الولايات المتحدة عام 2010 وفق النظام المذكور.
وقال ترامب إنه سيطلب من الكونغرس إقرار التشريعات اللازمة لإلغاء قانون القرعة الذي تعتمده دوائر الهجرة الأميركية، وهو ما يلاقي تأييداً في الكونغرس من قبل الحزبين، وأشار إلى أن القوانين الأميركية سمحت للشاب الأوزبكي باستقدام 23 شخصاً آخر من أوزبكستان إلى الولايات المتحدة.
ووصف الرئيس الأميركي في تصريحات له في البيت الأبيض قوانين تطبيق العدالة في أميركا بالمزحة، وقال ردا على سؤال إنه لا يستبعد إرسال منفذ هجوم نيويورك، الذي وصفه بـ "الحيوان"، إلى سجن غوانتانامو والتعامل معه وفق قوانين العدالة العسكرية. وطالب لاحقاً بإعدامه في سلسلة تغريدات أثارت جدلاً وانتقادات واسعة من منظمات حقوق الإنسان، على اعتبار أنّ عقوبة الإعدام غير موجودة في العديد من قوانين الولايات الأميركية.
وخلال الحملة الانتخابية، تبنى ترامب خطاباً متشدداً في محاربة ما يسميه "الإسلام الراديكالي"، وأعلن مراراً تأييده استخدام وسائل تعذيب المعتقلين في قضايا الإرهاب. وبعد عملية سان بيرناردينو في كاليفورنيا، التي نفذها أميركي مسلم من أصول باكستانية، طالب ترامب بمنع دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة، وفرض رقابة صارمة على المقيمين منهم على الأراضي الأميركية.
وأظهرت التطورات الأخيرة في المشهد السياسي الأميركي أنّ ترامب مستعد للذهاب بعيداً من أجل إرضاء قاعدته الانتخابية والشارع الأميركي، وهو لن يتوانى عن اللجوء إلى ورقة الشارع في مواجهة ما يمكن أن تسفر عنه التحقيقات القضائية بشأن اختراق الروس لحملته الانتخابية.