تقوم الدائرة الاستخبارية-الرقابية التي شكّلها الرئيس المصري، عبدالفتاح السيسي، لإدارة المشهد السياسي، في سرية تامة، بحملة جديدة للقضاء على المنظمات الحقوقية وجمعيات المجتمع المدني المصرية الناشطة في مجالات حقوق الإنسان والتحوّل الديمقراطي والدفاع عن القضايا العمالية، وذلك بتحريك قضية التمويل الأجنبي الخاملة منذ عام 2013، من دون أن تُعلن رسمياً عن إجراءات أمنية أو قمعية ضد هذه المنظمات.
ويكتفي النظام في حملته الجديدة بالآليات القضائية والقانونية، التي تظهره دولياً بصورة النظام المحافظ على دولة القانون، واحترام الدستور، فبإيعاز من دائرة السيسي ومستشارته للأمن القومي الوزيرة السابقة فايزة أبو النجا، صدرت قرارات قضائية سرية منذ عدة أسابيع بمنع جميع رؤساء ومديري منظمات حقوق الإنسان، الذين لم يتم التحقيق معهم في قضية التمويل الأجنبي الأولى عام 2011 من السفر، ووضع المسافرين منهم خارج مصر على قوائم ترقب الوصول.
ووفق معلومات من مصادر قضائية في النيابة العامة المصرية، فإن منع كل من مؤسس المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، حسام بهجت، ومؤسس ومدير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، جمال عيد، ومدير المعهد المصري الديمقراطي، حسام علي، من السفر خلال شهر فبراير/شباط الماضي، تم تطبيقاً لقرارات قضائية ترتبط بإعادة فتح قضية التمويل الأجنبي مرة أخرى، وقرب بدء التحقيق فيها رسمياً واستدعاء جميع الضالعين في تأسيس وإدارة عدد من المنظمات للتحقيق رسمياً.
وتكشف المصادر عن أن وزير العدل، أحمد الزند، أصدر منذ عدة أسابيع قراراً بانتداب قاضيين جديدين للتحقيق في القضية إلى جانب قاضي التحقيق المنتدب فيها منذ أكتوبر/تشرين الأول 2013، المستشار هشام عبدالمجيد، ليشكّل بذلك لجنة تحقيق قضائية وفق السيناريو نفسه لتشكيل لجنة التحقيق التي حقّقت في القضية عام 2011 وقدّمت عدداً من الحقوقيين الأجانب العاملين في مصر إلى المحاكمة، والذين تم تسفيرهم خارج مصر بقرار من رئيس محكمة استئناف القاهرة الأسبق، عبدالمعز إبراهيم، قبل بدء محاكمتهم رسمياً، ثم صدرت ضدهم أحكام غيابية بالسجن في يونيو/حزيران 2013.
قائمة المتهمين
تعكف هذه اللجنة القضائية حالياً على حصر جميع الأشخاص المشاركين في تأسيس وإدارة عدد من المنظمات، تمهيداً لاستدعائهم لسماع أقوالهم بما هو منسوب إليهم من تلقي مساعدات أجنبية من الولايات المتحدة وغيرها من الدول الأجنبية، من دون إبلاغ الجهات المختصة في الدولة، وتوجيهها لأنشطة تمثّل خرقاً للأمن القومي المصري، وتسيء إلى سياسات الدولة ورموزها وحكومتها، والتواصل مع جهات أجنبية لأغراض غير المصرح بها قانوناً.
والمنظمات الموجّه لها أصابع الاتهام هي: مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية، الذي أسسه سعدالدين إبراهيم، ومركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، الذي أسسه ويديره بهي الدين حسن، ومركز الأندلس لدراسات التسامح، الذي يديره أحمد سميح، والمعهد المصري الديمقراطي، الذي يديره حسام الدين علي، وجمعية التنمية الإنسانية، ومؤسسة عالم واحد للتنمية ورعاية المجتمع المدني، ومركز التنوير للتنمية وحقوق الإنسان، ومؤسسة آفاق جديدة للتنمية المجتمعية، والمجموعة المتحدة للقانون، التي أسسها ويديرها المحامي الشهير نجاد البرعي.
وتضم القائمة كذلك مركز دار المستقبل للاستشارات القانونية ودراسات حقوق الإنسان، وهي متهمة مع المعهد المصري الديمقراطي بدعم حركة شباب 6 أبريل، التي تعتبرها الأوساط الرسمية المصرية حالياً جماعة محظورة.
وتضم كذلك مؤسسة النقيب للتدريب ودعم الديمقراطية، ومركز هشام مبارك للقانون، والمبادرة المصرية للحقوق الشخصية التي أسسها وكان يديرها حسام بهجت، والمنظمة العربية للإصلاح الجنائي، التي أسسها ويديرها محمد زارع، ومركز النديم لعلاج ضحايا العنف والتعذيب، الذي تديره حالياً عايدة سيف الدولة، ومركز الأرض لحقوق الإنسان.
وتضم أيضاً جمعية نظرة للدراسات النسوية، على الرغم من أنها جمعية مشهرة وفق القانون المصري، والمجلس العربي لدعم المحاكمة العادلة وحقوق الإنسان، والمركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي أسسها ويديرها المرشح السابق للرئاسة خالد علي.
وتضم أيضاً المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، التي أسسها ويديرها حافظ أبو سعدة، العضو الحالي بالمجلس القومي لحقوق الإنسان، وكذلك جمعية التنمية الإنسانية بالمنصورة، والشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، التي أسسها ويديرها جمال عيد، ومركز دعم التنمية والتأهيل المؤسسي، والمكتب العربي للقانون، وجمعية "مجتمعنا" للتنمية وحقوق الإنسان، ومؤسسة فارس للرعاية الاجتماعية بالمنصورة.
اقرأ أيضاً: مصر: قرار إداري بإغلاق مركز "النديم لتأهيل ضحايا التعذيب"
اتهامات جديدة
تؤكد المصادر القضائية أن هذه القائمة "أولية" قابلة للزيادة، لأن لجنة التحقيق القضائية خاطبت الأجهزة الأمنية المعنية، ممثلة في الاستخبارات العامة والأمن الوطني (أمن الدولة) لإبلاغها بما استجد من مراكز ومنظمات تم تأسيسها، أو بدأت تتلقى تمويلاً خارجيّاً بعد الإطاحة بحكم جماعة "الإخوان المسلمين" في 3 يوليو/تموز 2013.
وتستند هذه القائمة الأولية، التي أصدرت لجنة التحقيق قرارات المنع من السفر ضد معظم قيادات المراكز المذكورة فيها، إلى تحريات أجرتها الاستخبارات ووزارة الداخلية بين عامي 2010 و2012، وقدّمتها إلى لجنة التحقيق القضائية السابقة في قضية التمويل الأجنبي عام 2011.
هذا الأمر يعني أن القضية التي صدر فيها حكم غيابي ضد النشطاء الحقوقيين الأجانب في منظمات المعهد الجمهوري الدولي، والمعهد الديمقراطي الوطني، وفريدم هاوس، والمركز الدولي للصحافيين، ومنظمة كونراد أديناور، سيتم إحياء جزء منها وهو الخاص بالمنظمات المصرية (المحلية) مع إمكانية تقديمها للمحاكمة من جديد بمتهمين مصريين ووقائع جديدة تخص تلقيهم تمويلات خارجية وإنشاء منظمات وجمعيات غير شرعية من دون ترخيص، أو استخدام التراخيص الممنوحة لهم في تلقي تمويلات غير مشروعة.
وتتراوح المبالغ، التي تدّعي الجهات الأمنية ولجنة التحقيق القضائية أن المنظمات قد تلقتها، بين عشرات الآلاف وملايين الدولارات واليوروهات من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمنظمات الأميركية والأوروبية، التي كانت تعمل في مصر قبل 30 ديسمبر/كانون الأول 2011 وهو تاريخ اقتحام فروع المنظمات الأجنبية ووقفها عن العمل.
كما تواجه المنظمات اتهامات بالاستفادة السرية غير المعلنة من برنامج المعونة الأميركية، وتوفير ستار للجهات الحكومية الأميركية والأوروبية للتدخّل في الشؤون المصرية الداخلية، واختراقها أمنياً. وتواجه اتهامات بخرق قانون الجمعيات بتلقي أموال من الخارج من دون موافقة الوزارة المختصة، وإنشاء كيانات تقوم بأنشطة الجمعيات والمؤسسات الأهلية من دون ترخيص، ومباشرة نشاط سياسي بالمخالفة للقانون، وهي اتهامات تصل عقوبتها إلى الحبس سنة ونصف السنة وغرامة.
وتواجه أيضاً اتهامات بخرق قانون العقوبات بتلقي منافع مالية من أشخاص وهيئات خارج مصر لارتكاب جرائم داخل البلاد، وهو اتهام تملك المحكمة الجنائية وحدها تحديد فترة السجن فيه، بالإضافة إلى إصدار قرار بحل الجمعيات أو الهيئات أو المنظمات المتهمة وفروعها ومصادرة أموالها وأمتعتها وأدواتها.
الاحتمال الأخطر
يخشى العاملون بالمنظمات الحقوقية المصرية من أن تطبق عليهم لجنة التحقيق القضائية القانون، الذي أصدره السيسي في سبتمبر/أيلول 2014، والذي يعاقب بالسجن المؤبد وغرامة نصف مليون جنيه (نحو 64 ألف دولار) لكل من "يطلب لنفسه أو لغيره أو قبل أو أخذ ولو بالواسطة من دولة أجنبية، أو ممن يعملون لمصلحتها، أو من شخص طبيعي أو اعتباري، أو من منظمة محلية أو أجنبية أو أية جهة أخرى لا تتبع دولة أجنبية ولا تعمل لصالحها، أموالاً سائلة أو منقولة أو عتاداً أو آلات أو أسلحة أو ذخائر أو ما في حكمها أو أشياء أخرى، أو وعد بشيء من ذلك بقصد ارتكاب عمل ضار بمصلحة قومية، أو المساس باستقلال البلاد أو وحدتها أو سلامة أراضيها، أو القيام بأعمال عدائية ضد مصر أو الإخلال بالأمن والسلم العام".
وهذا التعديل القانوني الذي أدخله السيسي على المادة 78 من قانون العقوبات، أصبح يوسّع جهات تمويل الجرائم ليشمل تلقي الأموال بقصد إضرار البلاد سواء من الداخل أو الخارج، كما لم يعد الإضرار بأمن الوطن مقتصراً على "ارتكاب عمل ضار بمصلحة قومية" بل أصبح يتمثل في " المساس باستقلال البلاد أو وحدتها أو سلامة أراضيها، أو القيام بأعمال عدائية ضد مصر أو الإخلال بالأمن والسلم العام".
وتساعد هذه التعبيرات المطاطة والألفاظ الواسعة غير المحددة، على انطباق الجرائم الواردة في المادة على كل منظمات المجتمع المدني تقريباً، والتي تعتمد بشكل أساسي في تمويلها على المساعدات الخارجية، وخصوصاً الأجزاء المخصصة لها من المعونة الأميركية لمصر وفقاً لاتفاقيات حكومية سابقة بين القاهرة وواشنطن.
وما يدعم احتمال توجيه اتهامات لمسؤولي المنظمات بهذه المادة، أن لجنة التحقيق القضائية شكّلت لجنة تفتيش ومراقبة من موظفي وزارة التضامن الاجتماعي، طلبت الاطلاع على وثائق التمويل الخاصة بالمنظمات بين عامي 2010 و2015، ولم تقتصر في طلباتها على عامي 2010 و2011 كما كان الوضع بالنسبة للمنظمات الأجنبية، التي تم توريطها في القضية من قبل.
إجراءات صامتة
وفي محاولة للابتعاد عن صخب وسائل الإعلام، وجّهت دائرة السيسي تعليمات صريحة للجنة التحقيق القضائية بعدم التعامل مع وسائل الإعلام، وإصدار قراراتها المختلفة بالمنع من السفر وترقب الوصول بسرية وعدم إخطار المتهمين بها، وعدم استدعاء مسؤولي المنظمات للتحقيق في مواعيد متقاربة، واستيفاء أوراق التحريات الأمنية والاستخبارية والبنكية أولاً.
ومن بين الإجراءات، التي اتخذتها اللجنة القضائية أيضاً، تشكيل لجنة مشتركة من وزارة المالية ومصلحة الضرائب ووزارة التضامن لملاحقة هذه المنظمات مالياً وضريبياً، إذ تتهم اللجنة الجمعيات المشهرة بالتهرب الضريبي، كما تتهم الجمعيات غير المشهرة قانوناً بممارسة عمل مستحق الضريبة بلا ترخيص بغية التهرب من أداء الضرائب، وبمخالفات مالية أخرى أقل قيمة.
وتضفي هذه الإجراءات على القضية غموضاً متزايداً، إلا أن المصادر القضائية ذاتها ذكرت أنه تم استبعاد عدد من الجمعيات والمنظمات، التي كانت تتلقى تمويلاً من دول صديقة للنظام الحالي، وكذلك الجمعيات المرتبطة بالكنائس القبطية والكاثوليكية والإنجيلية، مما يؤكد تركيز الحملة على منظمات المجتمع المدني الحقوقية فقط. ويعاني نظام السيسي من أنشطة هذه المنظمات في مجالات الدفاع عن حقوق الإنسان والتحوّل الديمقراطي، ويعتبرها من الكيانات التي يمكن أن تمثّل خطراً على بقاء النظام وشعبيته وصورته الخارجية، لا سيما بعد الإطاحة بالتيار الإسلامي وتهميش دور الأحزاب السياسية.
ويرى مراقبون أن تعيين السيسي للوزيرة السابقة فايزة أبو النجا مستشارة له لشؤون الأمن القومي، يهدف أساساً إلى بسط سيطرة الدولة على منظمات المجتمع المدني، ليس على مستوى مراقبة عملها الميداني، بل على مستوى مراقبة تدفقات التمويل الأجنبي الواردة من الولايات المتحدة وأوروبا والتصدي لبرامج التمويل الأجنبية الداعمة للتحوّل الديمقراطي.
وكانت أبو النجا قد اعتبرت في شهادتها أمام لجنة التحقيق والمحكمة خلال قضية التمويل الأجنبي الأولى، أن الولايات المتحدة وسلوفاكيا وألمانيا خرقت النظام المصري باستخدام برامجها الإعانية للتدخل في شؤون مصر الداخلية، كما ادعت أن هذه الدول خرقت اتفاقية فيينا، التي تنظم العلاقات الدبلوماسية الدولية، واقترحت تجميد اتفاقية برنامج المساعدات الأميركية الاقتصادية لمصر طالما استمر متضمناً تقديم إعانات للجمعيات الأهلية.
اقرأ أيضاً: العفو الدولية: أوباما ضمن منتهكي الحريات والسيسي الأبرز عربياً