25 مارس 2022
حرب طرابلس.. الأسلحة الصامتة
دخلت الحرب التي يشنها اللواء المتقاعد، خليفة حفتر، بغرض الاستحواذ على العاصمة الليبية طرابلس شهرها الخامس. وعلى الرّغم من التحشيد والاستعداد العسكري واللوجستي والاعتماد المالي الكبير الذي سبق إعلانه بدء الحرب، إلا أن مسعاه نحو العاصمة لا زال متعثّرا، بل يمكن القول إن هجومه هذا قد مني بفشل ذريع، خصوصا بعد فقدانه غرفتي عملياته في المنطقة الغربية إثر خسارته مدينة غريان، وانحصار وجود القوات الموالية له في مدينة ترهونة، أقصى جنوب شرق طرابلس.
ويمكن اعتبار خسارة حفتر غريان مجموعة خسارات في آن واحد، فهذه المدينة هي إحدى الحواضن الراسخة للثورة الليبية، وفيها حاضنة شعبية مناوئة بشدة لمشروع حفتر. ومن هذا المنطلق، كانت السيطرة على غريان ستعد انتصارا رمزيا لمشروع حفتر الّذي يقف في مفاصله رجال نظام معمر القذافي على مشروع الثورة الّذي يعتبر نقيضا سياسيا ومجتمعيا وأخلاقيا لمشروع هؤلاء. فضلا عن ذلك، حدث دخول حفتر غريان من دون قتال تقريبا، بعد استمالة إحدى المجموعات المسلّحة الرئيسية المناوئة له في السابق. كما أن صعوبة تضاريس المدينة لكونها جبلية مكشوفة (بالنظر للطبيعة الصخرية لجبالها) يجعل أي تحرك عسكري من قوات حكومة الوفاق لاستعادة السيطرة عليها أمرا بالغ الصعوبة وباهظ التكاليف.
وإلى هذه الاعتبارات، أنشأت قوات حفتر غرفة عمليات ثابتة وجلب أخرى متحرّكة (حديثة) بالإضافة إلى التسليح عالي المستوى، مثل الطائرات المسيّرة وقذائف جي بي 6 الموجهة
بالليزر وصواريخ جافلين شديدة الفعالية والتطور، والتي يعتبر وجودها في غريان دليلا قاطعا على وجود فرقة فرنسية إلى جانب قواته هناك. ويوحي ذلك باطمئنان قوات حفتر إلى أن استعادة قوات حكومة الوفاق المدينة أو تفكير هذه القوات فيها غير مطروح أساسا. والأرجح أن التفكير على هذا النحو هو ما جعل قوات حفتر تفقد المدينة، بعد قيام قوات الوفاق بهجوم خاطف تم بإسناد من مجموعة من أهالي المدينة من الداخل، تولت فتح الطريق لهذه القوات، لتسقط بخسارة حفتر غريان كل الاعتبارات الرمزية التي بنى عليها سيطرته على المدينة، وليسقط بذلك كل العتاد العسكري النوعي الّذي كان في معسكرات غريان بيد قوات الوفاق، ومنها عدد مهم من صواريخ جافلين الأميركية الصنع الفرنسية المصدر ومقذوفات مورينكو جي بي 6 الصينية الصنع إماراتية المصدر. وليقع بعد ذلك حلفاء حفتر الدوليون في إحراج شديد، لم يكن أدل عليه من الرواية الفرنسية، لتفسير وجود أسلحة "جافلين" في غريان. وقد وصفت وسائل إعلام فرنسية هذه الرواية بأنها تتمتع بقليل من المصداقيّة وفيها ثغرات وتناقضات كثيرة.
لم يتبق لحفتر في المنطقة الغربية من ليبيا إلا مدينة ترهونة التي يسيطر عليها تشكيل اللواء التاسع الموالي له، مع جيوب في صبراتة وصرمان. ولا تشكل الأخيرة تهديدا عسكريا مباشرا على قوات حكومة الوفاق، على خلاف القوات الموجودة في ترهونة، والتي تعرف جغرافية المكان جيدا. وتنفذ من خلال منطقة قصر بن غشير إلى مختلف محاور القتال، خصوصا مناطق عين زارة ووادي الربيع وطريق المطار. والملاحظ أن وتيرة هجمات قوات حفتر تضاءلت بشكل ملحوظ، إثر الأسابيع الستة الأولى لبدء التحرّك صوب طرابلس. ولم تعد تبادر بالهجوم إلا نادرا، وحتى ساعة الصفر الجديدة التي حدّدها حفتر للهجوم على العاصمة منتصف شهر يوليو/ تموز الماضي، كان أثرها إعلاميا أكثر منه ميدانيا، ولم يترتب عليها أي تقدّم.
فقدان حفتر غريان وفشله في التقدم نحو طرابلس وارتفاع الكلفة البشرية للهجوم في صفوف قواته من قتلى وأسرى وفارّين، فضلا عن تعقّد مجريات المعركة بعد امتصاص قوات "الوفاق" صدمة الهجوم الأولى، وامتلاكها زمام المبادرة العسكرية والنوعية، ليس أقلها تدمير طائرتي شحن وثلاث طائرات من دون طيار لحفتر في قاعدة الجفرة. وقد دفع حفتر إلى محاولة تخريب الوضع الخدمي والمعيشي في طرابلس مرات، وعلى أكثر من صعيد، فمن قطع الماء على طرابلس ثلاثة أيام، عبر سيطرة مجموعة مسلحة على منظومة التحكم في التغذية بالماء الصالح للشرب في المنطقة الغربية، والواقعة في منطقةٍ من المفترض أنه يسيطر عليها إلى استهداف مطار معيتيقة المدني سبع عشرة مرة على الأقل، إما بالطائرات أو بقذائف الهاون أو بصواريخ غراد، إلى الهجمات غير المفهومة ضد محطات تحويل الضغط العالي، وتسببت في إغراق مناطق بأكملها في الظلام أياما، بالإضافة إلى تعمد قواته في جنوب طرابلس استهداف محولات وأعمدة نقل الكهرباء الكبيرة، ليتفاقم وضع الكهرباء في العاصمة ونواحيها، وهو المتأزم أصلا، ولترتفع ساعات انقطاع الكهرباء في مناطق قلب العاصمة إلى حدود 22 ساعة يوميا، بينما غرقت مناطق أخرى، مثل المنطقة الجنوبية من ليبيا في الظلام أياما متتالية.
تخريب الوضع الخدمي بطرق شتى، وفي مرات عديدة، تزامن مع عمليات قصف مجنونة ودموية، استهدفت أساسا مركز إيواء المهاجرين غير النظاميين في تاجوراء شرقي طرابلس، موقعةً خمسين قتيلا، ومثلهم تقريبا من الجرحى، وكذلك حفل زواج واجتماع للأعيان لمكون التبو في مدينة مرزق، أقصى جنوب ليبيا، أوقعت 43 قتيلا ونحو 60 جريحا.
وكان إرباك الوضع الخدمي ومحاولات إحراج حكومة الوفاق بترويج رواية مغلوطة، مفادها إيواء المهاجرين غير النظاميين قرب مخزن للأسلحة وإطلاق الرصاص عليهم في أثناء
محاولتهم الفرار من مركز الإيواء غداة القصف (رواية كان للمبعوث الأممي في ليبيا، غسان سلامة، دور في ترويجها)، مع ما يطرحه ذلك من فتح واقع المهاجرين غير النظاميين في مراكز الإيواء من ناحية أخرى، فضلا عمّا يطرحه ذلك من إظهارٍ لحكومة الوفاق بمظهر غير قادر على احتواء هؤلاء المهاجرين، كان يتقاطع، بشكل منهجي، مع استهدافٍ متعمّد لمكوّن التبو السكاني المناوئ لحفتر، مع ما يمكن أن ينجرّ عنه هذا الاستهداف من تصاعد لأعمال العنف بين القبائل العربية وقبائل التبو. والواضح أن اللواء المتقاعد لا يعتمد في حربه على القوة العسكريّة فقط، بل أيضا على نوع من الأسلحة الصامتة التي من شأنها إرباك معسكر الوفاق، من قبيل اللّعب على وتر الفتنة العرقية، على اعتبار أن مكوّن التبو مؤيد لحكومة لوفاق، ولا يعترف بحفتر. ومن ذلك أيضا جعل حياة الناس في طرابلس وما جاورها أكثر شقاءً بما يصرف تركيز حكومة الوفاق عن الاهتمام بشكل مركّز على الحرب التي تستهدف كيانها ومناطق نفوذها.
يستخلص من كل ما سبق فشل حفتر في العدوان الذي يدخل شهره الخامس فشلا ذريعا في محاولته السيطرة على طرابلس. وأن حفتر بات مقتنعا بأنه لن يتمكّن من ذلك في الظروف الميدانية الحالية، وتعمّده تعقيد الوضع الخدمي شمالا، لإرباك حكومة الوفاق أمام الرأي العام في طرابلس وإظهارها بمظهر العاجز، وجسارته على إذكاء الحرب الأهلية ذات الطبيعة العرقية، والتي تهدد بتحويل جنوب ليبيا وشمال النيجر وتشاد إلى منطقة متوترة، بل وملتهبة لو توسع التوتر العرقي في المنطقة، وهو عملٌ يستبطن فيه اللواء المتقاعد ضغطا على حلفائه، لتقديم مزيد من الدعم له في معركة طرابلس، و كذلك للدلالة على أنه لا يزال رقما صعبا، قادرا على خلط الأوراق وترتيبها وفق ما تقتضيه مصلحته.
لا يُعرف إن كان حفتر سيحصل على مزيد من الدعم الدبلوماسي والعسكري في هجومه على طرابلس، خصوصا في ظل تصاعد الضغط البرلماني والشعبي في فرنسا (أحد داعميه) على خلفية تأييدها له والمطالبات بكشف ما تخفيه الحكومة الفرنسية في علاقتها بحفتر، وكذلك في ظل ما بدا مراجعةً جوهرية لسياسات حكومة أبوظبي (أهم حلفائه)، إلا أن الأكيد أن قواته لن تتوقف عن تهديد جنوب طرابلس، إلا إذا فقد قاعدتها الرئيسية الثانية في ترهونة، أسوة بما حدث في غريان، والتي من الوارد جدّا أن تكون الهدف الموالي لقوات حكومة الوفاق.
ويمكن اعتبار خسارة حفتر غريان مجموعة خسارات في آن واحد، فهذه المدينة هي إحدى الحواضن الراسخة للثورة الليبية، وفيها حاضنة شعبية مناوئة بشدة لمشروع حفتر. ومن هذا المنطلق، كانت السيطرة على غريان ستعد انتصارا رمزيا لمشروع حفتر الّذي يقف في مفاصله رجال نظام معمر القذافي على مشروع الثورة الّذي يعتبر نقيضا سياسيا ومجتمعيا وأخلاقيا لمشروع هؤلاء. فضلا عن ذلك، حدث دخول حفتر غريان من دون قتال تقريبا، بعد استمالة إحدى المجموعات المسلّحة الرئيسية المناوئة له في السابق. كما أن صعوبة تضاريس المدينة لكونها جبلية مكشوفة (بالنظر للطبيعة الصخرية لجبالها) يجعل أي تحرك عسكري من قوات حكومة الوفاق لاستعادة السيطرة عليها أمرا بالغ الصعوبة وباهظ التكاليف.
وإلى هذه الاعتبارات، أنشأت قوات حفتر غرفة عمليات ثابتة وجلب أخرى متحرّكة (حديثة) بالإضافة إلى التسليح عالي المستوى، مثل الطائرات المسيّرة وقذائف جي بي 6 الموجهة
لم يتبق لحفتر في المنطقة الغربية من ليبيا إلا مدينة ترهونة التي يسيطر عليها تشكيل اللواء التاسع الموالي له، مع جيوب في صبراتة وصرمان. ولا تشكل الأخيرة تهديدا عسكريا مباشرا على قوات حكومة الوفاق، على خلاف القوات الموجودة في ترهونة، والتي تعرف جغرافية المكان جيدا. وتنفذ من خلال منطقة قصر بن غشير إلى مختلف محاور القتال، خصوصا مناطق عين زارة ووادي الربيع وطريق المطار. والملاحظ أن وتيرة هجمات قوات حفتر تضاءلت بشكل ملحوظ، إثر الأسابيع الستة الأولى لبدء التحرّك صوب طرابلس. ولم تعد تبادر بالهجوم إلا نادرا، وحتى ساعة الصفر الجديدة التي حدّدها حفتر للهجوم على العاصمة منتصف شهر يوليو/ تموز الماضي، كان أثرها إعلاميا أكثر منه ميدانيا، ولم يترتب عليها أي تقدّم.
فقدان حفتر غريان وفشله في التقدم نحو طرابلس وارتفاع الكلفة البشرية للهجوم في صفوف قواته من قتلى وأسرى وفارّين، فضلا عن تعقّد مجريات المعركة بعد امتصاص قوات "الوفاق" صدمة الهجوم الأولى، وامتلاكها زمام المبادرة العسكرية والنوعية، ليس أقلها تدمير طائرتي شحن وثلاث طائرات من دون طيار لحفتر في قاعدة الجفرة. وقد دفع حفتر إلى محاولة تخريب الوضع الخدمي والمعيشي في طرابلس مرات، وعلى أكثر من صعيد، فمن قطع الماء على طرابلس ثلاثة أيام، عبر سيطرة مجموعة مسلحة على منظومة التحكم في التغذية بالماء الصالح للشرب في المنطقة الغربية، والواقعة في منطقةٍ من المفترض أنه يسيطر عليها إلى استهداف مطار معيتيقة المدني سبع عشرة مرة على الأقل، إما بالطائرات أو بقذائف الهاون أو بصواريخ غراد، إلى الهجمات غير المفهومة ضد محطات تحويل الضغط العالي، وتسببت في إغراق مناطق بأكملها في الظلام أياما، بالإضافة إلى تعمد قواته في جنوب طرابلس استهداف محولات وأعمدة نقل الكهرباء الكبيرة، ليتفاقم وضع الكهرباء في العاصمة ونواحيها، وهو المتأزم أصلا، ولترتفع ساعات انقطاع الكهرباء في مناطق قلب العاصمة إلى حدود 22 ساعة يوميا، بينما غرقت مناطق أخرى، مثل المنطقة الجنوبية من ليبيا في الظلام أياما متتالية.
تخريب الوضع الخدمي بطرق شتى، وفي مرات عديدة، تزامن مع عمليات قصف مجنونة ودموية، استهدفت أساسا مركز إيواء المهاجرين غير النظاميين في تاجوراء شرقي طرابلس، موقعةً خمسين قتيلا، ومثلهم تقريبا من الجرحى، وكذلك حفل زواج واجتماع للأعيان لمكون التبو في مدينة مرزق، أقصى جنوب ليبيا، أوقعت 43 قتيلا ونحو 60 جريحا.
وكان إرباك الوضع الخدمي ومحاولات إحراج حكومة الوفاق بترويج رواية مغلوطة، مفادها إيواء المهاجرين غير النظاميين قرب مخزن للأسلحة وإطلاق الرصاص عليهم في أثناء
يستخلص من كل ما سبق فشل حفتر في العدوان الذي يدخل شهره الخامس فشلا ذريعا في محاولته السيطرة على طرابلس. وأن حفتر بات مقتنعا بأنه لن يتمكّن من ذلك في الظروف الميدانية الحالية، وتعمّده تعقيد الوضع الخدمي شمالا، لإرباك حكومة الوفاق أمام الرأي العام في طرابلس وإظهارها بمظهر العاجز، وجسارته على إذكاء الحرب الأهلية ذات الطبيعة العرقية، والتي تهدد بتحويل جنوب ليبيا وشمال النيجر وتشاد إلى منطقة متوترة، بل وملتهبة لو توسع التوتر العرقي في المنطقة، وهو عملٌ يستبطن فيه اللواء المتقاعد ضغطا على حلفائه، لتقديم مزيد من الدعم له في معركة طرابلس، و كذلك للدلالة على أنه لا يزال رقما صعبا، قادرا على خلط الأوراق وترتيبها وفق ما تقتضيه مصلحته.
لا يُعرف إن كان حفتر سيحصل على مزيد من الدعم الدبلوماسي والعسكري في هجومه على طرابلس، خصوصا في ظل تصاعد الضغط البرلماني والشعبي في فرنسا (أحد داعميه) على خلفية تأييدها له والمطالبات بكشف ما تخفيه الحكومة الفرنسية في علاقتها بحفتر، وكذلك في ظل ما بدا مراجعةً جوهرية لسياسات حكومة أبوظبي (أهم حلفائه)، إلا أن الأكيد أن قواته لن تتوقف عن تهديد جنوب طرابلس، إلا إذا فقد قاعدتها الرئيسية الثانية في ترهونة، أسوة بما حدث في غريان، والتي من الوارد جدّا أن تكون الهدف الموالي لقوات حكومة الوفاق.
مقالات أخرى
09 فبراير 2020
28 ابريل 2019