تُخاض في اليمن، في هذه الأيام، معارك متعددة، بعضها سياسي، وغالباً خلف الأبواب المغلقة، في ظل عملية تصفية حسابات بين القوى السياسية، سواء بين معسكر يحسب نفسه على الثورة الشبابية من جهة، وبين معسكر النظام القديم من جهة ثانية، أو داخل معسكر الثورة نفسه.
كلفة هذه المعارك، على أهميتها، لا تقارن بالمعارك العسكرية التي أصبحت ملازمة للبلاد، وتحديداً في أقصى الشمال بين الحوثيين ومسلحين آخرين غالباً محسوبين على حزب التجمع اليمني للاصلاح (الإخوان المسلمين)، وبمشاركة وحدات من الجيش تتّهم بأنها مقرّبة من "الاصلاح" واللواء علي محسن الأحمر، الذي تحوّل إلى مستشار رئاسي، من دون أن يخسر من نفوذه داخل الجيش.
ما جرى في الأيام الاخيرة في محافظة عمران، التي تمكّن الحوثيون من السيطرة عليها، بعد أشهر من المعارك، قبل أن يعلنوا، أمس السبت، عن نيتهم الانسحاب منها ضمن اتفاق مع وزارة الدفاع، يمكن التوقف عند أكثر من دلالة له ولكلفته.
سيطرة الحوثيين على عمران، كان مؤشراً واضحاً على مدى تنامي القوة العسكرية للحوثيين، وهم الذين خاضوا، منذ 2004 إلى اليوم، معارك متعددة، سواء مع الجيش اليمني، أو مع مسلحين قبليين، وحتى مع السعودية التي دخلت في الحرب السادسة كطرف في القتال ضدهم وخرجت منها خاسرة.
تحرص جماعة أنصار الله على التأكيد أن قوتها لا ترحم، وأنها لن تتوقف عن استخدامها حتى القضاء على الطرف الذي اختار مواجهتها، سواء أكان الطرف الذي يقاتلهم منتمياً إلى الجيش، أم حزباً سياسياً.
وبدا ذلك واضحاً في ما انتهى إليه مصير قائد اللواء 301 مدرع، حميد القشيبي، الذي أفيد عن مقتله في عمران الأسبوع الماضي من دون أن تسلّم جثته حتى اللحظة. وعلى الرغم من أن ملابسات مقتله لم تتضح بعد بشكل نهائي، تبقى الرواية الأكثر تداولاً تتحدث عن تصفية الحوثيين له بعد وقوعه في قبضتهم.
واقع يدفع كثيرين إلى إبداء خشيتهم من أن هذه القوة لن تتوقف عند عمران، القريبة من صنعاء، وأنها عاجلاً أم آجلاً ستُستخدم داخل أحياء العاصمة، وخصوصاً في ظل استمرار المناوشات في أكثر من منطقة، واعتماد الحوثيين لخطاب يختصر خصومهم بـ"الميليشيات التكفيرية" و"الدواعش".
أما تطمينات الحوثيين بشأن عدم وجود أي توجه من هذا القبيل، فلا يأخذه كثر على محمل الجد في ظل اقتناع بأن الأطماع التوسعية للجماعة لن تتوقف قبل فرض أكبر قدر ممكن من الهيمنة على إقليم آزال، وهو أحد الأقاليم الستة التي فرضها مؤتمر الحوار ضمن خطة انتقال اليمن إلى بلد فيدرالي.
ويضم إقليم آزال العاصمة صنعاء التي يوجد فيها الحوثيون من دون أن تكون لهم سيطرة عسكرية، فضلاً عن صعدة، وعمران، (يسيطر عليهما الحوثيون)، وذمار التي شهدت مواجهات متقطعة بين الحوثيين والسلفيين. وأفيد أخيراً عن توقيع الطرفين وثيقة "إخاء وتعايش" قد لا تدوم طويلاً قبل أن تلاقي مصير جميع الاتفاقات التي وقعت سابقاً وانهارت.
في المقابل اسثنيت من اقليم آزال، محافظة حجة، (تشهد وجوداً كثيفاً للحوثيين ومواجهات أيضاً)، بذريعة أنها تمتلك ميناءً على البحر الأحمر (ميناء ميدي)، وبالتالي لا يُراد أن يسيطر الحوثيون على إقليم لديه منفذ بحري.
انعدام الثقة بأهداف الحوثيين، يوضح أن القوة العسكرية والهيمنة على معظم الاقليم ليست قادرة في أي لحظة على تأمين التعايش بين الحوثيين وباقي المكونات السياسية والقبلية في إقليم حذّر اليمنيون مبكراً من أنه سيكون وصفة دائمة للحروب بسبب غلبة التنافر القبلي والسياسي فيه.
بالتالي، فإن الحوثيين، مع كل تقدم عسكري يحرزونه، يصبح عبء السلاح الذي يتباهون به أكبر عليهم، ويكونون مطالَبين بانخراط سياسي أكبر، لأنهم يتحولون شيئاً فشيئاً إلى أكبر قوة عسكرية (غير نظامية) في هذا الاقليم.
تؤكد التطورات في اليمن أنّ لا أمان للحوثيين إلا بقدر انخراطهم في مشاريع وطنية لا فئوية والابتعاد عن الركون في كل مرة إلى لغة السلاح الذي يفرطون في استخدامه منذ الثورة الشبابية، مستفيدين من تغييرات المشهد السياسي في اليمن منذ الثورة، وانهيار التحالف بين الرئيس السابق علي عبد الله صالح وحلفائه القبليين، وتحديداً آل الأحمر الذين يشكلون الجناح القبلي داخل حزب الاصلاح. وهم الذين حرصت جماعة أنصار الله على تسوية منازلهم ومقراتهم، في مناطق وجودها، بالأرض.
الأوضاع الراهنة تجعل الخيارات المتاحة في اليمن معدودة؛ فإما أن تستمر دوامة الاقتتال الأهلي إلى أن يقصي طرف الآخر، وهو أمر مستحيل، أو تستمر إلى أن تُستنفد قدرات الأطراف جميعها وتقرر الجلوس إلى طاولة الحوار، وكلفة هذا الخيار مدمرة لليمن ككل وليس لإقليم بعينه. أما الخيار الأخير المتبقي، فهو كسر هذه الدوامة عبر حراك سياسي وطني جدي، وليس من قبيل التظاهرة التي خرجت، أول من أمس، الجمعة، "ضد الحرب في عمران"، وكان شعارها "دفاعاً عن الجمهورية ووفاءً لشهداء الجيش"، وكانت فيها صور الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز هي الطاغية.
وبقدر ما يبدو الخيار الأخير صعباً في ظل غياب طرف قوي وفاعل قادر على تبديل دفة الأحداث، وتحديداً من داخل المكونات الشبابية أو الأحزاب السياسية، فهو يبقى الخيار الوحيد القادر على تجنيب البلاد الغرق في مزيد من الحروب الأهلية التي تقضي شيئاً فشيئاً على النسيج الوطني، ليحل مكانه خطاب مناطقي ومذهبي لم يسبق له مثيل.