الداخل اليوم إلى مدينة حرض في محافظة حَجّة اليمنية، لن يعرفها إذ تحولت إلى حطام تام. وهذه المدينة التي كانت تعدّ أكثر المدن اليمنية حركة ونشاطاً، تقع على الحدود مع السعودية وهي أحد أهم الممرات إليها، وخصوصاً أنها تبعد نحو ستة كيلومترات عن جازان السعودية.
وكانت المدينة قد تحوّلت إلى مسرح للحرب، فيما عانى عشرات الآلاف من سكانها الذين نزحوا وتركوا منازلهم وأملاكهم وتجارتهم لتأكلها الحرب التي أحالت المدينة مجرّد أطلال وخراب غير صالحة للعيش. يُذكر أن معارك عنيفة شبه يومية كانت تدور في المناطق المحيطة بها، وهو ما جعلها مدينة أشباح مشوّهة المعالم، لا يُسمع فيها إلا أزيز الرصاص وانفجارات القذائف.
أسرة سمير عبد القوي من الأسر التي نزحت إلى مدينة الحديدة (غرب) لتستقرّ في منزل مستأجر، تاركة منزلها ومحل بيع الوجبات الخفيفة (بوفيه) الذي كان يضمن لها مصدر دخل يومي. يقول عبد القوي لـ"العربي الجديد" إن "آلاف الأسر تركت أملاكها ومصادر دخلها مثلنا، وهي تعيش أوضاعاً مأساوية. أنا مثلاً، انتقلت وأسرتي إلى مدينة حرض قبل 10 سنوات، بعدما أنشأت مشروعي الخاص في تلك المنطقة التي تعدّ من المناطق اليمنية القليلة حيث الحركة تستمر ليلاً ونهاراً". ويشير إلى أن وقوع المدينة على ممر دولي، كان يساعد على توفير فرص عمل لآلاف اليمنيين الذين يأتون من محافظات مختلفة للعمل والإقامة فيها.
واليوم، يعيش عبد القوي وأسرته على ما يستطيع بيعه من مقتنيات ثمينة، فيما يجهل مصير محله الصغير. يضيف: "يقول كثيرون إن أغلب منازل المدينة دُمّرت، ولا أدري إذا كان مشروعي الخاص ومصدر رزقي الوحيد قد تضرر أم لا". يلفت إلى أن الأخبار تتحدث عن انتهاء الحرب فيها، لكنه لا يستطيع الذهاب لأن الحرب ما زالت مستمرة في المحيط.
يقدّر عدد النازحين من مديريات حرض وعبس وميدي وحيران الحدودية، بعشرات الآلاف رسمياً، وقد توزعوا في أكثر من محافظة منها الحديدة والمحويت وحجة وريمة وذمار وصنعاء.
تضمّ حرض منفذ الطوال الحدودي مع المملكة العربية السعودية، وهو منفذ للمسافرين والبضائع يُعدّ الأكبر من بين أربعة منافذ أخرى أصغر حجماً، اثنان منها (البُقع وعَلب) في محافظة صعدة وواحد (الوديعة) في محافظة حضرموت.
وكانت حرض الواقعة في أقصى شمال غرب اليمن، تشهد حركة نشطة على صعيد الفنادق والتصدير والاستيراد، إذ يتوسطها الطريق الدولي الذي يربط السعودية بالشريط البحري الذي يمر في مدينة الحديدة ومن ثم عدن للوصول إلى سلطنة عمان شرقيّ اليمن. في جوار حرض، عشرات المزارع التي يملكها نافذون، تنتج أجود أنواع الفواكة مثل المانغا والموز والجوافة بالاضافة إلى العسل وزهور الفل، التي اعتاد ملاكها تصدير معظمها إلى السعودية.
وفي هذا السياق، يسرد عديد من سكان منطقة سهل تهامة اليمني الفقير الذي تقع حرض في نهايته، القصص عن "الدخل الخرافي" الذي اعتاد كثيرون الحصول عليه من جرّاء التهريب أو توريد السلع المختلفة نحو الأراضي السعودية. الناس هنا لم تكن تتعامل إلا بالريال السعودي وبالآلاف. حسن الحذيفي (43 عاماً) من سكان المدينة، يخبر أنه كان يحصل على ما لا يقل عن ثمانية آلاف ريال سعودي (نحو 2140 دولاراً أميركياً) كل يومين، لقاء إدخاله الخراف التهامية المعروفة بجودتها، وإقبال السعوديين من سكان المناطق القريبة من الحدود اليمنية على شرائها. أما اليوم، فالحذيفي نازح مع زوجتيه وعشرة من أبنائه في منطقة الربوع في مديرية عبس المجاورة، ويسكنون في منزل من القش. وهو لا يجد ما يمكن أن يشبع بطون أبنائه الخاوية، بعدما كان واثقاً من استمرار عمله ودخله الكبير وبالتالي استمراره في الإنفاق لسنوات.
إلى ذلك، غادر آلاف المهمشين أو ما يُطلق عليه اليمنيون تسمية "الأخدام"، المناطق التي كانوا يسكنونها في مدينة حرض، ليبقى كثيرون منهم في العراء من دون أي التفاتة، حتى من منظمات الإغاثة الإنسانية. ويشكو حميد التهامي سوء أوضاعه، إذ يسكن اليوم مع أسرته في خيمة بالقرب من وادي سردد التابع إدارياً لمحافظة المحويت. يقول لـ"العربي الجديد": "هربنا لنجد أنفسنا في الشارع، لا نملك أبسط مقومات الحياة. لم أحمل معي من منزلي المكوّن من الصفيح، إلا بعض البطانيات". وكان التهامي يعمل في بيع الفل والقات أمام المنفذ للمغتربين الآتين من السعودية، أما اليوم فيحاول توفير المال من خلال عمله في تنظيف السيارات التي تمر بمحاذاة الوادي.
من جهته، يؤكد الأمين العام للمجلس المحلي في مديرية حرض، الشيخ حمود حيدر، أن "عدداً كبيراً من سكان مديرية حرض يعيشون في الطرقات والوديان وعلى جوانب الطرقات الرئيسية وتحت الأشجار، إذ لم تقدّم لهم أي مساعدات تُذكر من أي جهة كانت". ويقول لـ"العربي الجديد" إنه تواصل مراًراً مع منظمات دولية، لكنها أكدت عجزها عن تقديم المساعدة في الظروف الحالية، مشيراً إلى أن عدد النازحين من مديرية حرض وحدها يتجاوز 18 ألف أسرة. يضيف أن "الحرب دمّرت 90% من منازل المدينة كلياً وجزئياً، لكننا نجابه واقع الحال بسبب المواجهات". ويوضح حيدر أن "المواجهات المسلحة دمرت البنية التحتية التي شيدت في المدينة خلال 25 عاماً"، لافتاً إلى "تضرر نحو 50 مدرسة، بالإضافة إلى مشاريع المياه التي قدمتها منظمة أوكسفام ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)".
تجدر الإشارة إلى أن حرض كانت في السابق، تحتضن أكبر مراكز إيواء للمهاجرين الأفارقة وأكبر ثلاثة مخيمات للنازحين اليمنيين الفارين من أتون حروب الحوثيين والحكومات السابقة، قبل أن يفروا منها بسبب الحرب ويتوزعوا في أماكن متفرقة من محافظتَي حجة والحديدة.
اقرأ أيضاً: عدن تعود... مكتظة ومكلفة