حزب المتة العالمي
دخل بيتنا قاصداً تفحّص البيانو المركون في غرفة الاستقبال. تحية مقتضبة مع ابتسامة ودودة، سبقت جلوسه أمام البيانو الذي تربع على مدى سنوات في صدر البيت. سوّى جلسته، وباشر العزف. سرعة أنامله وخفتها على المفاتيح وهي تتنقل ببراعة بين الأبيض والأسود أبهجتنا. كالمغناطيس انجذبنا نحوه فرحين بالموسيقى التي نشرها من حولنا. نقلني إلى جوّ أبعد عنّي خيط المرارة الرفيع الذي كان يلتف حول قلبي كلما فكرت بأننا سنستغني عن البيانو، بعد أن هجره أولادنا إلى غير رجعة.
أعجبه البيانو. عرفنا ذلك من إيماءاته وتعبيرات وجهه المرتاح. لم يكن بيننا لغة محكية مشتركة، كانت بضع كلمات فقط. فهو يتكلم الإسبانية، ويعرف بضع كلمات إنكليزية بدأ يتعلمها حديثاً. عرّفنا بنفسه وأخبرنا أنه من الأرجنتين. تضاعف فرحي عندما علمت أنه من ذلك البلد اللاتيني.
لماذا؟ لأن للأرجنتين معزة عائلية خاصة لدينا، معزة متوارثة تعود جذورها إلى بدايات القرن العشرين، وتحديداً سنوات الحرب العالمية الأولى، عندما سافر جدي لوالدي إلى أميركا الجنوبية وعمل في سلك الشرطة نحو 12 عاماً في تلك البلاد. ثم عاد إلى لبنان محملاً بمشروب لم يكن ذا شهرة بين بلادنا كما هو عليه اليوم، هو مشروب المتة.
سألت الموسيقي الأرجنتيني البارع عن المتة، ضحك وأخبرني بقليل من الكلام وكثير من الإشارة، أنه حمل معه من بلده مخزوناً لا بأس به، يكفيه لوقت طويل.
ماضٍ وحاضر عن المتة
من كتب عن مشروب المتة وعن مصدره وتسميته بشاي الأوروغواي أو Yerba Mate، لم يلغ صلتنا الأرجنتينية به. ذلك النبات المرّ المجفف الذي يصلنا بعبوات ورقية إلى بلداننا، اعتدنا طعمه منذ الصغر وصار يروق لنا. وإن كنّا نكسر مرارته بإضافة السكر لمائه الساخن في طفولتنا، أصبحنا عند الكبر نتقبل طعمه كما هو.
اعتدنا الحديث عن المتة بصيغة المؤنث، بصفتها عشبة خضراء مجففة ومطحونة نشربها بقرعة (ثمرة القرع) يابسة صلبة تحتمل الماء الساخن في داخلها، وتحول سماكتها دون إحراق أصابع حاملها. قليل من شاربيها يتناولونها مغلية أو منقوعة كالشاي، لأن أصول شربها بالشفط عبر "بومبيجا" (مصاصة معدنية تنتهي بمصفاة تُصفي الشراب عند سحبه)، وأصلها بالإسبانية "بومبييّا"، يعطيها رونقاً مميزاً لا مثيل له.
ويتفق أكثر شاربيها على ميزة الجلسات التي تجمعهم بالأهل والأصدقاء عند تناولها، وكيف تتحول القعدات الدائرية بفضلها إلى أجواء مسلية ومرحة تبعد المشاركين عن هواتفهم وتواصلهم الافتراضي ولو قليلاً. بعضهم من يعتقد بفوائدها الصحية والعلاجية على الريق أو قبل الأكل أو بعده لما فيها من فيتامينات متنوعة، وبعضهم الآخر يتجنب تناولها ليلاً لاحتوائها على الكافيين. لكنها في المحصلة تتحوّل إلى عادة محببة لها أجواؤها وطقوسها، التي إن غيبتها ظروف قاهرة، يتغلب الحنين إليها ويعيدها إلى مجراها الطبيعي.
وجلسات المتة قادرة على كسر الجفاء أو الخصام بين الشاربين أيضاً، وهذا ما كانت أمي تعتبره الدواء المعالج أحياناً، فلم يكن يرضيها أن نختم يومنا بالخلاف، الذي كان يدبّ بيننا نحن الأخوات في البيت. وكان علاج الخلافات البسيطة مثل تقاسم المهام داخل البيت وخارجه، أو الأكثر حدّة مثل الاختلاف في الرأي، وعدم احترام أصول الحوار وهكذا، كانت أمّي تحضر المتة معتمدة إيكال مهمة "الصبْ" (أي ملء القرعة بالماء وتوزيعها بالدور) لزعيمة الخصام بيننا، ثم تُجلِس إلى يمينها الأخت الخصم. ولأن صبّ المتة له أصول، والدور يبدأ عادة من اليمين، فهذا يعني إجبار الأختين على التواصل ولو بالحدّ الأدنى، ومن دور إلى دور ينساب الحديث وتلين الطباع ويتسرب دفء الشراب إلى القلوب. ولا تنتهي الجلسة إلا وتكون الأمور قد عادت إلى مجاريها.
أما المكافأة الكبيرة فكانت المتة بالحليب الدافئ المحلّى التي غالباً ما أسعدتنا في صغرنا، فكانت بديلاً عن الإفطار في صباحات الشتاء الباردة، مع الكعك والبسكويت.
حزب المتة
وإن كانت المتة وفق الأسطورة هي "مشروب الصداقة"، إلا أن اسم "مشروب الذكريات" يليق بها أيضاً لأن حضورها والاجتماع حولها لا ينفصلان عن شريط صور يعبر في المخيّلة، وتميّزه محطات لا تنسى.
كذلك يمكن اعتبارها عادة اجتماعية متوارثة إلى حدّ بعيد، لذلك تنتشر في مجتمعات دون أخرى وفي جماعات محددة في الدول المستوردة لتلك العشبة. أما اختراق تلك العادة نحو جماعات جديدة فليس مستحيلاً وإن كان محدوداً، ويجربها من يحب الاستطلاع واختبار الجديد في عالم المذاقات، وكذلك المهتمون بتاريخ العادات والأنثروبولوجيا.
أذكر محاولتي تعريف صديقة لي أيام الصبا بالمتة، والتي رأت في عدّتها وطريقة تقديمها أمراً مستغرباً، وكانت كلما سحبت "مجّة" من البومبيجا تردها لي، فأخبرها بأن تستمر في المجّ حتى تسمع صوت "شخرة" تعلن عن جفاف القرعة من الماء. لم تستسغ الفكرة ولم يعجبها تعاقب أفواه الشاربين على البومبيجا ذاتها، على الرغم من أننا نسكب عليها الماء الحار ونفركها بقشر الليمون كلما فرغت.
يتراءى لنا في طفولتنا أن المتة مشروب عائلي، لكننا نكتشف أنه يتخطى حدود معرفتنا الضيقة عن مدى انتشاره. ولا أعلم لماذا أشعر بالفرح عندما أقدمها لشخص يجهلها ويبدي إعجابه بها بعد تذوقها، كأنني أساهم في ضم رفيق جديد لحزب المتة العالمي.
وبقدر ما يدهشني التعرف إلى أشخاص جدد من بلدان مختلفة يشربونها، وأعجب لأن صيتها يتخطى حدود الجغرافيا، ولا تأسره الأماكن ولا العادات، فإنني أفرح فرحاً طفولياً لو رأيت صورة لأحد المشاهير وهو يشرب المتة، وما أزال معجبة حتى الآن بالصورة المتداولة للقائد تشي غيفارا، وأخرى لرئيس الأوروغواي السابق خوسيه موخيكا، وهما يشربان المتة بالقرعة العملاقة التي تتسع لماء إبريق ساخن بدون مبالغة.
بعد أكثر من عام تقريباً على بيع البيانو، عاد حنين الموسيقى لابني من جديد، وأراد أن يستعيد ما كان لديه من مهارات في العزف. بدأ بمتابعة الدروس في معهد للموسيقى في الدوحة. وذات يوم رافقته إلى هناك وإذا بي ألتقي بعازف البيانو الأرجنتيني، والذي علمت منه أنه انضم إلى هيئة التدريس في المعهد.
فرحت لمّا رأيته، كما لو أنني التقيت بشخص أعرفه حق المعرفة، ربما لأن بيننا عادة مشتركة، عادة متجذرة فينا لا نتخلى عنها... هو بالنسبة لابني أستاذ الموسيقى، أما بالنسبة لي فهو من حزب المتة.