23 يناير 2020
حسين العودات الذي صمد في دمشق
بعد أن غالب الأمراض طويلاً، رحل حسين العودات أخيراً، وفي دمشق التي صمد فيها، على الرغم من مغادرة الكثيرين. هو أبو خلدون الدرعاوي جميل الهيئة واللهجة، صاحب الرأس اليابس والوجه الصبوح، البعثي السابق الذي تسلم مناصب تربوية وإعلامية، ثم فضل العمل مستقلاً في مجال النشر صاحب دار الأهالي ومديرها. ولم يتوقف عن الكتابة والتأليف والنشاط. وتشهد عناوين كتبة وأعماله على سعة ذلك النشاط وعمقه: الموت في الديانات الشرقية، وثائق فلسطين، الإشراف العام على موسوعة المدن الفلسطينية، موسوعة الصحافة، موسوعة الصحافة في بلاد المغترب، العرب النصارى، المرأة العربية في الدين والمجتمع، دراسات إعلامية، الآخر في الثقافة العربية.
كان واحداً من كبارنا، بكل المعاني، في حراك ربيع دمشق، وكم تمكّن بلطفه وحكمته من إدارة معظم لقاءات لجان المجتمع المدني ومشاريع إحيائه، عندما كان نظام الوريث متردّداً في احتوائنا. وعندما حاولت الجماعة السورية استشراف آفاق مستقبل آخر، خارج أطر العقائدية التقدمية المفلسة، ووسط توتر الأجهزة وخوفها من رياح التغيير، حيث وصل بها التردّد إلى أن تستبدل استدعاءاتها الأمنية بدعوات الضيافة الشهيرة باسم فنجان القهوة. لكن، في مكاتب الفروع الأمنية التي لا ينتهي تعدادها.
وخلال ذلك كله، كان المرحوم يستقبل لقاءاتنا في مكتبه المتواضع، على الرغم من تنقله بين المزة والبرامكة، إلى أن منعه من ذلك مرضه من جهة، والانفلات الأمني بعد بدء المظاهرات من جهة أخرى، فصار يستقبلنا في بيته بالفيلات الغربية، وكم كانت ضيافة البيت العائلي، ورعاية زوجته الكريمة، تضفي الدفء على جلساتنا في تلك الظروف المتوترة.
ذلك كله في كفةٍ، كما يقال، وموقف أبو خلدون السياسي في كفة أخرى، فهو الذي رافق نشاط
حزب البعث في شبابه، وتنسم آماله فيه، وسرعان ما تركه في أوائل السبعينات، وابتعد متفرغاً لنشاطه الفكري. ثم ما لبث، حين لمح إمكانات التغيير، بعد رحيل الأسد الأب، أن شارك في جميع بيانات ربيع دمشق، مثل بيان الـ 99 الداعي إلى إطلاق الحريات الديمقراطية، وبيان الألف الداعي إلى إطلاق حراك المجتمع المدني، ثم في تأسيس لجان إحياء المجتمع المدني الوليدة، وبموازاتها في إدارة منتدى الأتاسي الذي استمرت جلسات حواراته الشهرية حوالي خمس سنوات، وكان مختبراً سورياً جامعاً أفكار ذلك الربيع وتياراته، كما كان مرصداً لمراقبي الأجهزة، ومكمنا لاعتقالاتها أيضاً، حتى وصل الأمر إلى منع جلسات المنتدى، واعتقال كامل مجلس إدارته، ومنهم أبو خلدون، إثر إدارته الجلسة الأخيرة للمنتدى، والتي مثلت الأفق الديمقراطي المفتوح الذي طالما دعا إليه، وألقيت فيها مداخلاتٌ جمعت مختلف الجماعات والمنظمات والأحزاب السورية المستقلة والمعارضة، بما فيها كلمة الجمعية السورية لحقوق الإنسان التي ألقاها كاتب هذه السطور، ورسالة من المراقب العام للإخوان المسلمين، صدر الدين البيانوني، وقرأها الناشط والكاتب علي عبد الله، وكلمات الأحزاب الكردية المتعددة. فسجل ذلك الاعتقال الذي لم يتجاوز الأسبوع علامة أخرى على ضيق صدر السلطة الجديدة، بعد اعتقالات ربيع دمشق الشهيرة. وبعد إغلاق المنتدى، لم يتوقف سعي الراحل إلى فتح آفاق اللقاء الوطني بين الديمقراطيين والإسلاميين، فما لبث أن شارك في وضع المسودة الأولى لإطلاق التحالف الوطني الذي عرف لاحقاً باسم إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي.
وإثر انطلاق حركة المظاهرات في سورية، كان من أبرز مناصري الحراك السلمي للثورة، بالكتابة الصحافية والرأي، كما انضم إلى صفوف المعارضة السورية في إطار هيئة التنسيق، وما لبث أن ابتعد عنها بعد تعثر مواقفها، ليتابع الكتابة دفاعاً عن مطالب الثورة، وفي نقد حركتها. وشارك في تأسيس رابطة الكتاب السوريين المستقلة والمعارضة، وحضر مؤتمرها الأول في القاهرة صيف عام 2012. وتميز فوق ذلك كله برفضه مغادرة سورية، على الرغم من شدة الحرب التي شنتها السلطة على رموز المعارضة، ثم على المجتمع، فبقي في دمشق منهكاً بأمراض الشيخوخة، ومقهوراً على ما وصل إليه خراب البلد.
وكان آخر انتقاداته تغوّل السلطة السورية وأجهزتها في ما كتبه، قبل أسابيع، محتجاً على إيقاف راتبه التقاعدي من اتحاد الكتاب العرب، عقاباً له على موقفه السياسي، وكأنه يفضح من جديد المنظمة المعروفة بتبعيتها العمياء لنظام الطاغية، ويطلب منها أن تكون محض نقابية وحامية لأعضائها وحافظة لحقوقهم، في مرحلةٍ انهار فيها كل مشروع الدولة الوطنية ومؤسساتها في سورية، واستباحها التدخل الروسي والإيراني، ولم يعد اتحاد الكتاب وغيره من المنظمات أكثر من استطالةٍ أخرى لشبيحته وأجهزته الأمنية. ولعل في ذلك خير بيانٍ للأزمة التي عاناها الراحل أخيراً، فضلا عن أمراضه. وهو الذي حاول الوقوف طويلاً ضد مسار الانهيار الحاصل، بعد أن عمل دوماً من أجل بناء الدولة الوطنية، وتعزيز مجتمعها المدني في سورية.
كان واحداً من كبارنا، بكل المعاني، في حراك ربيع دمشق، وكم تمكّن بلطفه وحكمته من إدارة معظم لقاءات لجان المجتمع المدني ومشاريع إحيائه، عندما كان نظام الوريث متردّداً في احتوائنا. وعندما حاولت الجماعة السورية استشراف آفاق مستقبل آخر، خارج أطر العقائدية التقدمية المفلسة، ووسط توتر الأجهزة وخوفها من رياح التغيير، حيث وصل بها التردّد إلى أن تستبدل استدعاءاتها الأمنية بدعوات الضيافة الشهيرة باسم فنجان القهوة. لكن، في مكاتب الفروع الأمنية التي لا ينتهي تعدادها.
وخلال ذلك كله، كان المرحوم يستقبل لقاءاتنا في مكتبه المتواضع، على الرغم من تنقله بين المزة والبرامكة، إلى أن منعه من ذلك مرضه من جهة، والانفلات الأمني بعد بدء المظاهرات من جهة أخرى، فصار يستقبلنا في بيته بالفيلات الغربية، وكم كانت ضيافة البيت العائلي، ورعاية زوجته الكريمة، تضفي الدفء على جلساتنا في تلك الظروف المتوترة.
ذلك كله في كفةٍ، كما يقال، وموقف أبو خلدون السياسي في كفة أخرى، فهو الذي رافق نشاط
وإثر انطلاق حركة المظاهرات في سورية، كان من أبرز مناصري الحراك السلمي للثورة، بالكتابة الصحافية والرأي، كما انضم إلى صفوف المعارضة السورية في إطار هيئة التنسيق، وما لبث أن ابتعد عنها بعد تعثر مواقفها، ليتابع الكتابة دفاعاً عن مطالب الثورة، وفي نقد حركتها. وشارك في تأسيس رابطة الكتاب السوريين المستقلة والمعارضة، وحضر مؤتمرها الأول في القاهرة صيف عام 2012. وتميز فوق ذلك كله برفضه مغادرة سورية، على الرغم من شدة الحرب التي شنتها السلطة على رموز المعارضة، ثم على المجتمع، فبقي في دمشق منهكاً بأمراض الشيخوخة، ومقهوراً على ما وصل إليه خراب البلد.
وكان آخر انتقاداته تغوّل السلطة السورية وأجهزتها في ما كتبه، قبل أسابيع، محتجاً على إيقاف راتبه التقاعدي من اتحاد الكتاب العرب، عقاباً له على موقفه السياسي، وكأنه يفضح من جديد المنظمة المعروفة بتبعيتها العمياء لنظام الطاغية، ويطلب منها أن تكون محض نقابية وحامية لأعضائها وحافظة لحقوقهم، في مرحلةٍ انهار فيها كل مشروع الدولة الوطنية ومؤسساتها في سورية، واستباحها التدخل الروسي والإيراني، ولم يعد اتحاد الكتاب وغيره من المنظمات أكثر من استطالةٍ أخرى لشبيحته وأجهزته الأمنية. ولعل في ذلك خير بيانٍ للأزمة التي عاناها الراحل أخيراً، فضلا عن أمراضه. وهو الذي حاول الوقوف طويلاً ضد مسار الانهيار الحاصل، بعد أن عمل دوماً من أجل بناء الدولة الوطنية، وتعزيز مجتمعها المدني في سورية.