ينطلق الآلاف من العراقيين في مناطق وسط وجنوب البلاد، اليوم الجمعة، بتظاهرات واسعة للمطالبة بالخدمات، وتوفير المياه الصالحة للشرب والتيار الكهربائي والعمل، وإنهاء الفقر والفساد الذي ينخر البلاد منذ قرابة 15 سنة. ومرّت على الشرارة الأولى التي انطلقت من البصرة، جنوب البلاد، 20 يوماً، لكن من دون تحقيق أي من مطالب المتظاهرين بشكل واقعي على الأرض، كما تعكس شعاراتهم وهتافاتهم. وفي غضون ذلك، يتخوّف نشطاء عراقيون من تكرار عمليات القمع الواسعة التي شهدتها الجمعتان الماضيتان في الجنوب وبغداد، وأسفرت عن مقتل وإصابة المئات من المتظاهرين، بلغت، وفقاً لمصادر طبية عراقية، 18 قتيلاً وأكثر من 600 جريح، عدا عن اعتقال المئات، جرى إطلاق سراح غالبيتهم بعد أيام.
وعمل رئيس الحكومة العراقية، حيدر العبادي، خلال الأيام الماضية، على تخصيص مبالغ مالية ضخمة للمحافظات المحتجة، بلغ مجموعها نحو 5 تريليونات دينار (نحو 4 مليارات دولار)، فضلاً عن الإعلان عن تأمين نحو 40 ألف وظيفة بصفة دائمة أو عبر التعاقد في الجنوب، وتخصيص 800 مليار دينار (نحو 680 مليون دولار) لصندوق الإسكان، بحسب بيانات رسمية نشرها العبادي.
لكن مجلس البصرة المحلي ينفي وصول أي أموال للمدينة، ما يشير إلى حدوث شرخ بين الحكومة الاتحادية والمجالس المحلية في البصرة وذي قار والمثنى والنجف. ومع توالي أيام التظاهرات يرتفع سقف مطالب العراقيين إلى حد بعيد عن طموح حكومة العبادي، لا سيما مطلب "إقليم البصرة" الذي عاد للظهور مرة أخرى، بعدما تركت البصرة التفكير فيه لأكثر من 10 أعوام. وفي السياق، قال الناشط من مدينة النجف، علي السنبلي، لـ"العربي الجديد"، إن "قائد شرطة المحافظة الجديد تعهد للمتظاهرين، في مؤتمر صحافي في المحافظة، بالحفاظ على أرواح المواطنين وعدم اعتقال أحد منهم. هذا الأمر حدث قبل أربعة أيام، إلا أن الأحداث التي وقعت عقب المؤتمر، كشفت عن حقيقة جديدة، إذ شهدت المحافظة اعتقال أربعة متظاهرين. إن ما يحدث على أرض النجف يختلف تماماً عما يقوله المسؤولون والعسكريون". وأشار إلى أن "الشرطة تضايقنا بسبب أو من دون سبب، من خلال الضباط الذين يستفزون المتظاهرين، ولا أستبعد أن تظاهرة الغد (اليوم) ستكون سيئة، وقد يقمع جنود الدولة، التظاهرات السلمية". وأضاف أن "القوات الأمنية تحاصر الساحات، ما أدى لتحولها إلى ثكنات عسكرية"، لافتاً إلى أن "حملة الاعتقالات، التي طاولت محتجين من قبل مليشيات بدر وعصائب أهل الحق، أدت إلى امتناع المتظاهرين عن الدخول إلى شوارع تحتوي على مقرات لهذه المليشيات. العصائب مثلاً نصبت كاميرات مراقبة للشارع الرئيسي المؤدي إلى ساحة ثورة العشرين التي نتظاهر فيها، للتعرف على وجوه الشباب، وملاحقتهم في ما بعد، ما اضطر المتظاهرين إلى المرور عبر طرق أخرى للوصول إلى الساحة". ولفت إلى أن "حزمة الإصلاحات العديدة التي اتخذتها الحكومة في بغداد، لم يتحقق منها أي شيء، سوى أن قطع الكهرباء تحوّل من 16 ساعة إلى 10 ساعات".
وفي بغداد، أكد الناشط حيدر المرواني أن "التظاهرات ستكون أشدّ على الحكومة، من حيث عديد المتظاهرين وهتافاتهم، وقد يتم قمعها بعد ساعة من انطلاقها"، مضيفاً "الجمعة الماضية لاحقتنا القوات الأمنية، وتحديداً قوات مكافحة الشغب، واعتقلت متظاهرين على بعد كيلومترين من مكان الاحتجاج في ساحة التحرير، وضربت المحتجين بالعصيّ وأطلقت عليهم الغاز المسيل للدموع. وغداً (اليوم) ستكرر القوات السيناريو نفسه، إذا لم تكن تنوي أصلاً تعنيف المتظاهرين أكثر، ولا سيما أن الحكومة تعلم أن تحضيرات كبيرة جرت من أجل الخروج بعدد أكثر من الجمعة الماضية". وتابع المرواني، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "التظاهرات في بغداد تجري الآن بعفوية تامة، فلا توجد منظمات أو تنسيقيات أو قادة يقودونها، وهو ما جعل الحكومة تخاف أكثر من الجماهير التي خرجت من دون أوامر من أحد، ما أدى إلى اتخاذ قرارات تعسفية مع شعب كامل، مثل قطع خدمة الإنترنت طيلة الأسابيع الماضية. إن الاحتجاج من دون قيادة أزعج السلطة كثيراً". ولفت إلى أن "العبادي حاول أكثر من مرة إجراء لقاء مع نشطاء التظاهرات في بغداد، إلا أنهم رفضوا التفاوض، وأرسلوا له رسالة شفهية بأن تنفيذ مطالب الشعب يعني القبول بالتفاوض مع أهالي بغداد. النشطاء في العاصمة كانت لهم تجربة سابقة مع العبادي، في العام 2015، حين لم يتحقق من حزمة الإصلاحات شيء، ولا حتى 10 في المائة، ولا يريدون أن يكرروا تجربة الحوار مع الرئيس".
وأشار رئيس لجنة الكهرباء في المجلس المحلي لمدينة البصرة، مجيب الحساني، إلى أن "جماهير البصرة ما زالت تضغط على الحكومة، لأنها أدركت أن كل وعود الحكومة للمواطنين في البصرة ليست سوى حبر على ورق، ولم تصل المبالغ المالية التي خصصتها الحكومة للبصرة، فيما لا يزال المحافظ أسعد العيداني يتواجد في بغداد لمتابعة هذا الأمر". وأضاف، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "الحكومة لم تعالج حتى الآن الملوحة في مياه المحافظة، وقد تم إطلاق دفعات من المياه، وصل جزء منها إلى قناة البدعة، لكن ناظم قلعة صالح ما زال مالحاً وهو يغذي مناطق كثيرة في المحافظة، والمياه المالحة تملأ شط العرب، وتحديداً منطقة كرمة علي، ما تسبب بتوقف الحياة في تلك المناطق". وعن مطلب "الإقليم" الذي أثاره المتظاهرون خلال الأيام الماضية، أكد الحساني أن "مطلب الإقليم ليس بجديد، إذ أُجري استفتاء بشأنه في العام 2008، من قبل أبناء البصرة، لكنه لم يصل إلى النسبة المطلوبة، والوضع حالياً يسمح بالشروع مرة أخرى بالمطالبة بهذا الأمر، خصوصاً بعد توقيع أعضاء المجلس المحلي في البصرة بالموافقة عليه، وهو سيقدم خلال الفترة المقبلة للحكومة الاتحادية لاتخاذ الإجراءات الرسمية والقانونية بشأنه، وسنسعى إلى تحقيق تقدم في ملف الإقليم".
إلى ذلك، أوضح المتحدث باسم الحكومة العراقية، سعد الحديثي، أن "الحكومة تعمل جاهدة من أجل توفير الأجواء الآمنة للمتظاهرين السلميين والمنشآت والممتلكات العامة والخاصة، وقد عقد العبادي، خلال الأسبوعين الماضيين، 3 اجتماعات لمجلس الوزراء لتشكيل خلية الأزمة الخدمية، ولجنة إعمار المحافظات، وتم إعطاؤها الصلاحيات الكافية لاتخاذ الخطوات العاجلة للاستجابة لمطالب المواطنين"، مشيراً إلى أن "الحكومة حققت مطالب المتظاهرين التي لا تحتاج إلى وقت طويل، وستعمل على تحقيق باقي المطالب على المستوى البعيد". وأضاف، في اتصال هاتفي مع "العربي الجديد"، أن "مستوى التظاهرات وحجمها وعدد ساعات التظاهر خلال الأيام الأربعة الأخيرة شهدت تراجعاً، وهذا مؤشر واضح على أن بعض المتظاهرين أدركوا أهمية التعاون مع الحكومة الاتحادية في ما يتعلق بالاستجابة لمطالبهم. نحن نسعى لإيجاد نشاطات استثمارية واسعة واستراتيجية لتوفير فرص عمل لكافة المحافظات تعود عليهم بالنفع على صعيد توفير الخدمات، وهذا الأمر لا يمكن أن يتحقق من دون وجود استقرار في تلك المناطق، ولا يمكن تحقيق مطالب المتظاهرين في اللحظة نفسها، لأننا لا نملك عصا سحرية. إن تحقيق ما يريده المتظاهرون يحتاج إلى أسابيع".
وانتقد المحلل السياسي العراقي واثق الهاشمي، اختيارات العبادي لشخصيات لجان حلّ الأزمات، معتبراً أن "العبادي اختار شخصيات شاركت في خراب البلاد". وقال الهاشمي، لـ"العربي الجديد"، إنه "من غير المعقول أن تتمكن الحكومة من تحقيق كل مطالب المتظاهرين، في ظل الإمكانيات المتواضعة الموجودة، وفي ظل العجز بالميزانية العراقية". ولفت إلى أن "المواطن العراقي أصبحت لديه القناعة والعقل الراجح والوعي بأن الحكومة لن تستطيع تنفيذ وعودها، ففي الناصرية وحدها تجاوزت مطالب المحتجين 90 طلباً، وبعضها يحتاج إلى تعديلات دستورية"، موضحاً أن "مجالس المحافظات في جنوب العراق لديها الكثير من الصلاحيات لتحقيق مطالب المتظاهرين، لكنها لا تملك الأموال". وأشار إلى أن "الكثير من الشخصيات الموجودة في اللجان التي شكلّها العبادي جزء من المشاكل في البلد. كان على العبادي أن يختار شخصيات مستقلة ومختصة ومهنية كأعضاء في لجان النظر بمطالب المتظاهرين، وليس وزراء يكرههم الشعب، ومنهم من هو متورط بقضايا فساد كثيرة".