بالنسبة إلى الزّوج - زوجها بصورة خاصّة - قرّرت مزنة أخيراً أن تعتبر برودة جسده موتاً، فأطلقت صفارة الإنذار من حنجرة تخالَطَت فيها ذكرى الفرح الأوّل مع نحيب وداع الحبيب. وراحت تتأسّى على ما ألَمَّ بجارتها الخرساء، بعدما أخرجها راعي الغنم من قبرها، في يوم الحسنة على روحها، أي بعد ثلاثة أيام فقط من دفنها. لكنَّ خرسها المفاجئ فوّت الفرح على أطفالها وأصابهم بالذعر، فتعلّقوا بها كما لو أنّهم يشاركونها الخرس.
لم يكن شيخ القرية أكثر اهتماماً حينها بما يحدث حوله، إذ تفرّغ إلى ترديد الآيات المحفوظات. تلك الآيات المعهود سماعها في حالة كهذه. وبدأ بالحديث عن محاسن الفقيد على الملأ، فيما هرع فتية القرية إلى حفر القبر، تأدية للواجب، على التلّة القريبة من أرض المتوفى. وتوجّه فتية آخرون لإبلاغ أقربائه في القرى المجاروة، كي يحضروا الجنازة ويقوموا بتقديم واجب العزاء واستقبال الضيوف والمعزّين.
كان ذلك اليوم يوماً مشهوداً في تاريخ رجلٍ بقي مغموراً طوال حياته التي لم تشهد حوادث استثنائية. كان رجلاً عجز عن جعل شهرته تتجاوز حدود بيته وأسرته، وهي ربما حال جميع أهل القرية، نساءً وجالاً، كباراً وصغاراً، الأموات منهم والأحياء.
في غروب ذلك المساء الريفيّ الخريفيّ، كان أهل القرية يبحثون عمّا يملأون به نهاراتهم المملّة الفارغة. كان منظر الجنازة الضخمة يوهم بموت عزيز القوم، بعدما توافد الأقرباء وحضر الكثير من المعزّين من القرى المجاورة كي يرافقوا الميت إلى "مأواه" الأخير.
كان على زوجته، التي بقيت تنتحب طويلاً بصوت خفيض، وبناته الحزينات على فراق والدهنّ، خصوصاً المتزوّجات من رجال يسكنون في قرى من الجوار القريب، أن يستخرجنَ أجمل منسيّات الوالد الراحل، الشخص الكريم والحامي لهنّ.
حتّى أنّ الشيخ راح يكرّر محفوظاته، المرّة تلو المرة ومن دون توقّف، حتّى وصل الجمع إلى التلّةَ، حيث جرى تجهيز القبر، فبدت لهم سوءات تاريخهم، مثل مرض جلديّ على وجه حسناء: عشرات الخشاخيش المطمورة كانت مفتوحة على وجه القبر، كما لو أن الحفارين أتوا لينبشوه قبل الدفن!
ذلك أنّ هؤلاء الفتية الذين انتُدبوا لحفر القبر، انفتح في وجههم أثناء الحفر مدفن أثري، فنسوا مهمّتهم التي جاؤوا من أجلها. وانتشروا متحمّسين يحفر كلّ منهم حفرته الخاصّة. ليس هذا وحسب ما جرى في ذلك المساء، فقد قام بعض الفتية، على عجل، وأخبروا ذويهم بالأمر، من دون ضجّة، لكي يحضروا لمعاونتهم ويجلبوا المزيد من المعاول والزنود، حتّى يستخرجوا الكنز المرصود في مكان ما من التلة الأثرية.
وبدلاً من أن يؤنّبهم الشيخ على فعلتهم، توجه إليهم بالسؤال عن اللُّقى الأثرية، وراح يخمّن قيمة كلّ قطعة على حدة، بحيث يفهم الفتيان أنّه خيرُ مَن يمكنهم تصريفَ اللُّقَى. ولم ينتبه أنّه بذلك أعطى الإذن للجميع بأن يبحثوا عن رزقهم وما يُوعَدُون، فتحوّلت التلة، بالقناديل التي توزّعت على فوهات المغارات الأثريّة والحُفَر الصغيرة، إلى ما يشبه مهرجاناً ليلياً لقبيلة تعبد النار. أمّا أديم التلة، فبدا من البعيد، كما لو أنّ سرباً من الخلود قد مدّ شبكة أنفاقه تحت مساحة التلة بكاملها.
لم تعد الحكاية تهتمّ بالباقي، وتقطع في حال الميت، بعدما أصبح الصباح. فالبعض يقول إنّه تعرّض لهجوم من حشرة مجهولة، والبعض يؤكد أنّه عاد إلى زوجته مزنة، بعدما استيقظ على مشهد فانتازيّ مذهل جعل عودته هو إلى الحياة، أقل عناصره غرابة.