حقد لبناني ــ سوري قديم

22 سبتمبر 2014
دبابة سورية في بيروت عام 1976 (فرانس برس/Getty)
+ الخط -
لم يميز اللبنانيون يوماً بين الشعب السوري وجيشه وطبعاً النظام الذي يستبدّ بالاثنين معاً. قبل الثورة وقبل الحرب والدمار الذان لحقا بسورية، كانت عبارة "السوري" تمثل جميع من على تلك الأرض، وهي لا تزال كذلك بالنسبة لكثيرين في لبنان. ولا تزال أيضاً ذاكرة اللبنانيين الجماعية تلخّص هذه العبارة بممارسات حواجز "التشبيح" السورية وعناصرها في الأماكن التي حكمتها قبل انسحاب الجيش السوري عام 2006.
يعود كل هذا إلى مرحلتين رئيسيّتين: الأولى في عام 1976 والثانية عام 1990، أسّستا لحقد تجاه السوريين وخوف منهم. لا يقتصر هذا الشعور على المناطق المسيحية التي عرّتها القيادة السورية من أحزابها وقياداتها السياسية وخنقت دورها على هذا الصعيد، بل أيضاً في المدن المحسوبة على الطوائف الإسلامية، حيث لا تزال الأحداث التي تلت مباراة فريق النجمة اللبناني لكرة القدم (محسوب على المسلمين) وفريق الجيش السوري عام 1998، راسخة في الأذهان. انتفض جمهور "النجمة" على خسارته رياضياً بالاعتداء على حاجز للجيش السوري في منطقة السفارة الكويتية بالقرب من ملعب المدينة الرياضية، فاحتلّ الحاجز وشرّد الجنود من بنادقهم وداس على شعاراتهم وصورهم المعلّقة في كل مكان.

أما الأطراف اللبنانية في البقاع والشمال، فتعيش على وئام مبدئي نظراً للحركة الاقتصادية المتبادلة وعمليات التهريب غير الشرعي. وقبل ذلك بعقود، يشير تاريخ المنطقة وكتبه التي تدرّس في المدارس والجامعات اللبنانية، إلى "استقلالية اللبنانيين والحرية التي تمتعوا فيها بعهد المتصرفية"، في حين بقيت المدن السورية تحت الإدارة العثمانية المباشرة. وتلت ذلك، الحربين العالمية الأولى والثانية، و"القلق اللبناني" من دمجهم في سورية لحين إعلان الاستقلال وإطلاق مشروع الفصل النهائي بين البلدين تباعاً، على صعيد العملة والجيش والمؤسسات الرسمية.
كل هذا التاريخ أسّس لخوف لبناني من السلطة السياسية السورية، مصحوباً بـ"الفوقية اللبنانية" المتعارف عليها لكون بلدهم "منارة الشرق" و"سويسرا الشرق" أو "بوابة الشرق إلى الغرب" وغيرها من العبارات التي يتم حقنها في أدمغة الأطفال منذ مقاعد الدراسة. ولعلّ أبرز ما يذكره اللبنانيون، هو رفض الرئيس الراحل فؤاد شهاب لقاء رئيس الجمهورية العربية المتحدة، جمال عبد الناصر، على الأراضي السورية، فنُصبت خيمة على الحدود بين البلدين عام 1958 وتم لقاء الرئيسيْن.
في العام 1976، دخل الجيش السوري عسكرياً إلى لبنان، وأوكل مهمة إيقاف الحرب الأهلية. عاث جنوده فساداً في المناطق التي انتشروا فيها. واستمر ذلك لحين عودة النار إلى الساحة اللبنانية ــ السورية، تحديداً في معركة زحلة (شرق لبنان) عام 1980. لا يذكر أهل المدينة سوى أنّ "السوري" حاصرها وقصفتها دباباته عشوائياً وأغارت طائرته على الأحياء السكنية فيها. تكرّر نفس المشهد في 13 أكتوبر/تشرين الأول عام 1990، يوم دخلت القوات السورية قصر بعبدا لإزاحة رئيس الحكومة المؤقتة ميشال عون. كان الأخير قد هرب إلى السفارة الفر
نسية، إلا أنّ الزحف السوري بشّر ببداية عهد وصاية جديدة كان الأكثر تأثيراً على العلاقة بين البلدين. في ذاكرة أبناء بعبدا، لا يزال مشهد دخول الجيش السوري واحتلاله بيوتاً وقصوراً ومحال تجارية حاضراً في الأذهان. كان الغبار يملأ سماء بعبدا (مقر رئاسة الجمهورية) بينما تدخل أرتال الدبابات السورية. وقف الناس على الشرفات مصدومون بهذا المشهد. على طريق قصر بعبدا، توقفت العربات العسكرية، وصُدِم الجنود كيف أن أهل المنطقة لا ينثرون الأرُز عليهم. قالت قيادتهم لهم إنهم جاؤوا ليحرروا لبنان، بينما الناس هنا لم تر فيهم إلا غزاة.
انتهت الحرب على يد الجيش السوري، وبوشرت عملية إعادة الإعمار على أيدي العمال السوريين. في تلك الأيدي السورية، رمّمت بيروت وسائر المناطق الأخرى، إلا أنّ الحقد والخوف لا يزالان. حكمت القيادة السورية اللبنانيين وقمعتهم. نكّل جيشها بالمواطنين واعتدى عليهم، فدفع المواطنون السوريون ثمن كل ذلك. قُتل العشرات منهم إثر "انتفاضة الاستقلال" عام 2005، وخطف آخرون رداً على "خطف الحجاج في أعزاز"، واليوم عاد التنكيل بهم، عمالاً ولاجئين، بُعيد معارك عرسال. قبل عقدين، كان "السوري" يمثّل بالنسبة للبنانيين "حزب البعث". اليوم بات محسوباً على تنظيمات "داعش" و"النصرة" فيُخطف ويهجّر من جديد. لم يسأله أحد عن رأيه، لا في سورية ولا في بلد اللجوء لبنان. وفي بيروت، محكوم عليه أنه آتٍ من "تل كلخ"، وهي من أبرز العبارات العنصرية التي يمكن سماعها في الشوارع اللبنانية، بما تمثله هذه المنطقة السورية من فقر وحرمان وتجهيل. لكن الأشد قسوة ان تأتي هذه المذمة من أبناء الأرياف اللبنانية التي لا تقلّ حرماناً وفقراً عن تل كلخ وسائر الأرياف السورية.