حكاية الثلاثة عشر الذين أحبوا "البراء"

10 سبتمبر 2015
يوم رحيله كان شاهداً على ما صاره براء(العربي الجديد)
+ الخط -

اعتادت زوجتي أن تسألني باستنكار: لماذا تحب هذا الشخص؟
واعتدت أن أرد عليها: أعلم أنك لا تحبينه مثل كثيرين.. ولكنني من الثلاثة عشر إنساناً على هذا الكوكب الذين يحبون براء.


لم يكن هذا السؤال من نصيب زوجتي وحدها، بل أزعم أن أغلب من عرفوا براء وعرفوني قد سألني مرة، على الأقل، السؤال ذاته. والحق أنني لم أعجب أبداً. فقد كنت أفهم تماماً أن كثيرين ممن عرفوه لم يحبوه. أحاول الكتابة بدبلوماسية حين أكتفي باستخدام ذلك الفعل، "لم يحبوه".

التقيته في المرة الأولى بصحبة صديقي "أحمد شلبي" عام 2009. استدعانا هو لمكتبه عندما سمع بفيلمنا الأول الذي أنتجناه معاً. أراد أن يرانا عن قرب. ربما يفتح ذلك بيننا طريقاً إلى عمل ما. كان جالساً خلف مكتبه. يستمع كثيراً ويتحدث قليلاً. بصوت هادئ أضفى على هيئته الضخمة هيبة إضافية. الغرفة لم تكن مضاءة سوى بالأباجورات، الكثير منها توزع في أرجاء المكان. لم يحب البراء الضوء المباشر أبداً. لا في حياته ولا في أفلامه.

استمع إلينا كثيراً. وفي النهاية قالها مباشرة:
"- تشتغلوا معايا؟
- نشتغل ايه؟
- بروديوسرز
- مش حابين نبقى بروديوسرز، عاوزين نفضل مخرجين.
- احنا محتاجين بروديوسرز.
- بس احنا عاوزين نفضل مخرجين فريلانس.
- ليه؟
- عاوزين نفضل أحرار. مش عاوزين نتحول لموظفين أغبيا.
- طيب أنا بصراحة مبفهمش أوي اللي انتوا بتقولوه. أنا مؤمن ان عمري قصير. ومعنديش وقت أوي أضيعه في البص عالسقف. أنا مبعرفش أقعد فاضي. وبلزم نفسي إني آجي كل يوم الشغل واكتب وانتج. لو قعدت اكرر الكلام اللي بتقولوه ده مش هعمل حاجة. وانا مش حابب اني معملش حاجة".

سكتنا.. الحقيقة لم يكن لدينا تصور حقيقي عما نريد. أجاب "أحمد" نيابة عنا:
"أنا فيه حاجة واحدة ممكن تخليني حابب إني اشتغل بروديوسر.
ايه هي؟
إن البروديوسر ده هو منشئ ثقافة. هو اللي بيقدر إنه يعمم أفكاره ويخليها ثقافة عامة.
مفيش الكلام ده يا معلم. البروديوسر ده من الآخر زي ماكينة الـATM. بتحط فيها فلوس تطلع شرايط".

كان براء حاداً. مباشراً. وساخراً.

هل أضفت شيئاً لم يعرفه عنه الجميع؟ فلماذا أحببته إذن؟
هكذا بدأت علاقتي ببراء. قررت أن أعمل تلك المهنة التي لم أكن أحبها. ولكنني كنت على أعتاب التقدّم لخطبة "أسماء" التي أصبحت زوجتي بعدها بعامين. وكان "البوفتيك" قد اعتاد، ولا يزال، أن يذل أعناق الرجال. طلبت من "براء" راتباً ما فعرض علي ما يساوي ربعه.
قبلت فوراً، إجلالاً "للبوفتيك" وتقديراً للحياة الزوجية المأمولة. وعملت مع براء لمدّة عام، كانت كافية تماماً لألعن كل الموجودين في قارات العالم الست الذين يبدأ اسمهم بحرف الباء.

لكن يبدو أنني لشيء ما فيه لم أكرهه أبداً.
شهدت الذين يلقون بأوراق استقالتهم في وجهه، وشهدت من موظفي الشركة ذاتها من لم يحتمل وجوده الثقيل في العالمين، الحقيقي والافتراضي، فسلموا بواقعهم الذي أجبرهم على العمل معه.
لكنهم قرروا إعمالاً لأضعف الإيمان أن يمنحوه "البلوك الأمتن"، بينما هو جالس في مكتبه في الغرفة المجاورة. كنت في ذلك المكان كمن يخفي إيمانه. أفكر قبل أن أنطق كلمة لطيفة عنه. أو قبل أن أحكي أنني ذاهب للجلوس معه على المقهى. هل قلت إنني كنت من ثلاثة عشر أحبوا البراء؟ أظن أن ذلك العدد كان مبالغاً فيه.

انتهى أمر تلك الشركة كما هو متوقع. اختلف هو مع الكل ورحل. ورحلت أنا كذلك إلى أوروبا للدراسة. افتقدت جلسات طويلة من الضحك المتواصل، السخرية من أي شيء. ومن كل شيء. كان من شدة سخريته وصراحته يخيفني أحياناً، أنا الذي كنت لم أزل أسبح في بحر الأيديولوجيات وأنسحب منه رويداً. عندما كتب مقاله الأشهر عن "روبي"، والذي كان يؤمن أنه أفضل ما كتب على الإطلاق، لم أستطع أن أمنع نفسي من حب ذلك المقال وتلك الكتابة.

أحببت المقال وأصابني الضيق أنني أحببته. لم أكن أحب روبي حينها، أو كانت مشاعري تجاهها هي تلك المشاعر المختلطة في قلب كل شاب متدين. كنت بلا شك أحبها وأكرهها.
وعندما سألني براء عن رأيي في المقال، بدا ذاك الاضطراب على كلامي. فقال هو ببساطة "روبي ظاهرة، دعنا نتجاوز مسألة الحرام والحلال، ونحللها".

عدت من أوروبا قبل ثورتنا بخمسة وعشرين يوماً. التقيته مرات في تلك الأيام كان آخرها جلسة على مقهى قذر في مساء الرابع والعشرين من يناير/كانون الثاني لعام 2011. سألني والأصدقاء: "متوقعين ايه لبكرة؟
أنا متفائل.
أنا مش عارف اتوقع. ممكن يكون أهم ثلاثاء في تاريخ جيلنا، وممكن يكون مجرد ثلاثاء آخر".

"صح.
طيب ما تيجي نجهز بكاميراتنا. كل واحد معاه كاميرا. ونصور اليوم من البداية. ونعمل فيلم كامل عن اليوم ونسميه "ثلاثاء آخر". لو الدنيا اتقلبت هيكون ثلاثاء آخر مختلف. ولو محصلش حاجة، هيبقى مجرد ثلاثاء آخر".

لا أظن أن عقل براء توقف لحظة عن التفكير في العمل. في كل فيلم وأي فيلم. كل مشهد يصلح لأن يكون حكاية. وكل حكاية تصلح أن تكون فيلماً. ما تحتاجه فقط هو راوٍ يجيد الحكي.

ولم يجد براء شيئاً مثلما أجاد الحكي. التقينا في اليوم التالي مبكراً. داخل مسجد "مصطفى محمود"، والذي صنع براء عنه فيلماً كاملاً قبلها، كنا خمسة أشخاص فقط وعشرات من رجال الأمن. كان المشهد محبطاً. علمنا أنه لا فائدة، فتنازلنا طوعاً وكرهاً عن فكرة الفيلم وآثرنا السلامة. خبأنا كاميراتنا في دولاب الأحذية. وخرجنا إلى ساحة المسجد في الموعد المحدد.

كان عددنا قد بلغ العشرين تقريباً، وأحاطنا ما يقارب المائة من جنود الأمن. كان مشهداً من مشاهد الأفلام الصامتة. كسر الصمت هو عندما نظر إليّ وقال محتداً:

"اهتف
اهتف ايه؟
اي حاجة.
اهتف انت.
قولي هتاف
يسقط حسني مبارك
يسقط يسقط حسني مبارك".

(ملحوظة: هناك رواية أخرى لهذا الموقف ينسب فيها الصديق العلامة في علوم الشريعة والحديث أحمد فتح الباب هذا الموقف لنفسه، ويورد لفظة "تحيا مصر" بدلاً من "يسقط حسني مبارك"، -أومازلت حتى الآن اتنازع أنا وصديقي فتح الباب الرواية الحقيقية في هذا الموقف-

وورد مرفوعاً عن الصديق حسام سرحان أنه قد سمع من البراء، قدس الله روحه، أنه قال إن أول هتافه في يوم الخامس والعشرين كان "تحيا مصر". وبالجمع بين الروايات نجد أن الرواية الأقرب للتواتر أن الموقف كان معي بينما الهتاف كان "تحيا مصر" أو أن براء سأل كلانا عن الهتاف واقترح عليه كل منا هتافاً مختلفاً. والله أعلم).

أربع سنوات مرت. كثير من الحكايات الجميلة والبائسة. قررت في عام 2013 أن أرتحل عن مصر بلا رجعة. سافرت إلى أميركا لفترة ثم عدت بعد أن خاب مسعاي. فالتقيته كالعادة مرات أخرى. وقتها كنت أستيقظ كما جرت العادة على كتابات تسبه وتلعنه على صفحات فيسبوك. لم يكن الأمر غريباً. كان معتاداً إلى حد الملل. وعندما رحلت رحيلي الأخير عن مصر، التقيته بعد وصولي بأيام.

طلبت منه البقاء، وألححت عليه في الأمر. وأخبرني أنه يخطط للرحيل عن مصر أيضاً، وهل هناك من لم يفعل؟، غير أنه لم يكن قد حسم قراراه بعد. بعد شهرين جاءني بالبشرى. سينتقل أخيراً إلى الدوحة حيث أقيم.

رحل عن مصر في فبراير/شباط من هذا العام، قبل رحيله عن الحياة بسبعة أشهر. الكل يعرف أنه في هذا العام كان مختلفاً. صرنا جميعاً في سنوات هزيمة الثورة أكثر همّاً، أكثر شيخوخة، أكثر سخطاً وأكثر انزواء. لكنه هو وحده فيمن أعرفهم الذي صار أكثر حباً. أحب الحياة بشكل أوسع، أحب الناس، انفتح على الكثيرين من الأصدقاء الجدد. قضى أوقاتاً أطول مع الكل وأوقاتاً أقل خلف مكتبه. اعتاد أن يمتدح الكل، يشكر الكل، يضحك للكل، ويثني على الكل.

كان واعياً هو نفسه بذلك التغيّر الكبير، وحكى عنه كله في مقاله الجميل "عن عملي الذي دمر حياتي" عن حياته وعمله.

صار يقضي أوقاتاً طويلة معنا على المقهى في حكايات غير ذات معنى. كان المعنى فقط هو أن نجلس طويلاً. صارت الحكايات هي المعنى.

أما أنا فلم أعد غريباً. صار الجميع يحبه. صار يكتب كثيراً، وكثر قراؤه بطبيعة الحال. ووسط زحام الأصدقاء، فقدت دعابتي عن "الثلاثة عشر الذين أحبوه" معناها. حتى زوجتي التي لم تكن تحتمل أن تسمع ذكره، أحبته كما لم تحب أحداً من أصدقائي. وصار اسمه هو الاسم الأكثر حضوراً على لسان ابنتي التي لم تزل تعد كلماتها الأولى. وكانت تنطق اسمه بحروف ثلاث فقط هكذا.. "باء".

يوم رحيله، كان شاهداً على ما صاره براء. كان رحيله كما قالت "سلمى" صادماً وحزيناً كحياتنا تماماً. اكتشف الجميع أنه صديق الجميع. الكل له نصيب من الذكريات معه. الكل له منه كلمات جميلة. الكل يشعر أنه الأكثر معرفة به. أما الثلاثة عشر الذين سبقوا بمحبته. فلم أعد أذكر منهم أحداً.

(مصر)

المساهمون