حلايب.. أزمة سودانية مفتعلة
هناك ارتباط وثيق بين الأوضاع الداخلية في أي بلد وسياسته الخارجية، فعندما تكون هناك مشكلات داخلية كبيرة لدى النظم الاستبدادية، أو الفاقدة الشرعية، فيما يتعلق بالقضايا السياسية، سواء المتعلقة بالديمقراطية أو الحقوق والحريات العامة، أو أن تكون لديها مشكلات اقتصادية، تتعلق بقضية سوء التوزيع للعوائد الاقتصادية بين طبقات الشعب، فإن هذه الدول يكون أمامها طريقان لإدارة علاقاتها الدولية مع دول الجوار تحديداً، خصوصاً إذا كانت هناك خلافات حدودية بينهما.
الأول، طريق التصعيد وافتعال أزمات خارجية من أجل إلهاء الرأي العام الداخلي عن القضايا السياسية والاقتصادية، على اعتبار أن مواجهة العدو الخارجي تكون مقدمة على بحث القضايا الداخلية. وبالتالي، ينبغي على الجميع، حكومة وشعباً، مؤيدين ومعارضين، الالتفاف حول النظام الحاكم "الديكتاتوري الاستبدادي"، من أجل مواجهة هذا العدو الخارجي. وربما هذا ما لجأ إليه صدام حسين في حرب الخليج الثانية عام 1990، بعد أقل من عامين فقط على انتهاء حربه الضروس مع إيران، لم ينشغل خلالها بإصلاح الشأن الداخلي، والتعامل الجيد مع خصومه، خصوصاً من الشيعة والأكراد.
الطريق الثاني هو اللجوء إلى أسلوب التهدئة مع دول الجوار، للتفرغ للمشكلات الداخلية، وإن لا يمنع هذا من أن يرفع هذا النظام، من حين إلى آخر، شعارات تتعلق بعدم التنازل عن جزء من حدوده، لكنه يفضل أساليب التسوية السياسية، أو القانونية، حقنا لدماء شعبه، ومراعاة لقواعد الجيرة.
وربما هذا الطريق الثاني هو الذي لجأ إليه النظام السوداني في التعامل مع الجارة الشمالية مصر، خصوصاً فيما يتعلق بقضية حلايب وشلاتين المتنازع عليه منذ عقود طويلة. فالرئيس السوداني، عمر البشير، يعمد، من حين إلى آخر، إلى مغازلة شعبه، خصوصاً في شرق البلاد، بهذه القضية، والتأكيد على أنها سودانية، وأنها ستكون دائرة انتخابية في أي انتخابات تشهدها البلاد. ومعروف أن قوى المعارضة في شرق السودان، وخصوصاً البجا والبشارية، لها امتدادات في حلايب. وكانت هذه المعارضة الشرقية تلوح، أيضاً، بالانفصال بدعم إريتري على غرار قوى المعارضة في الجهة الغربية من البلاد، حيث إقليم دارفور.
وهنا، يعتمد البشير على الآلة الإعلامية الحكومية لترويج مقولاته، كما حدث في سبتمبر/ أيلول الماضي، عندما أوردت وكالة الأنباء السودانية خبراً مفاده"أن قوة عسكرية سودانية عادت للمرابطة في حلايب"، كما نقلت تصريحات عن مسؤولين تفيد بأن الحكومة السودانية أدرجت منطقة حلايب، بعد تحريرها من الجيش المصري، دائرة انتخابية. ولا يمكن أن تصدر هذه التصريحات عفوية من الوكالة الرسمية للبلاد، تفسر في سياقها الذي جاءت فيه، فتوقيتها جاء متزامناً مع مغازلة البشير أهالي الشرق، بل وتصريحاته قبل زيارته مصر إن حلايب سودانية وستظل سودانية، في إطار ترويج الانتخابات التي ستشهدها البلاد العام المقبل، ويتوقع حدوث مقاطعة كبيرة لها، لإدراك المعارضة عدم جدواها، في ظل نظام لا يسمح بديمقراطية حقيقية.
لكن، عاد البشير بعد هذه التصريحات "العنترية" للتأكيد، في تصريحات لصحيفة الشرق الأوسط اللندنية، أنه لن يخوض حرباً ضد مصر بخصوص حلايب، وإنما سيكون الحل بالتفاوض، أو اللجوء إلى التحكيم الدولي.
هذا المطلب، خصوصاً ما يتعلق بالتحكيم الدولي ليس جديداً، وإنما سبق أن طالبت به "جبهة الشرق" المعارضة، خصوصاً بعدما منعت السلطات المصرية الحكومة السودانية عام 2008 من إجراء التعداد السكاني في حلايب، ما عرقل عمل مفوضية الانتخابات، وعلى الرغم من أن حكومة الخرطوم عملت على تلافي ذلك، بإعلانها اعتماد مثلث حلايب دائرة انتخابية، للتمثيل في البرلمان والمجلس التشريعي المحلي، إلا أنها تراجعت عن ذلك الإعلان، بعد اعتراض الحكومة المصرية التي تدخلت عام 2000 للسيطرة المسلحة على الإقليم، ولم تحرك الخرطوم ساكناً في هذا الشأن.
وفي إطار ما سبق، يمكن فهم أسباب ترويج النظام السوداني مقولات عنترية عن مثلث حلايب، لكن الممارسات تكون غير ذلك، بل من المفارقات الغريبة في زيارة البشير مصر، أنه خلال استقبال السيسي له في مطار القاهرة، جلس الاثنان في الاستراحة وخلفهما خريطة القطر المصري، ومن ضمنها مثلث حلايب. وكان هذا أدعى للبشير أن يحزن، أو يتضايق، أو ينهي الزيارة، لكنه لم يتحرك ببنت شفة، بل لم يشر البيان الختامي المقتضب له، في نهاية الزيارة إلى مثلث حلايب، أو طرق تسوية الخلاف بشأنه، علما أن مؤتمر البجا طرح، قبل سنوات، ثلاثة خيارات بشأنه، هي التحكيم، أو استفتاء للشعب الموجود في مثلث حلايب، ليختاروا الانضمام إلى السودان أو مصر، أو جعل منطقة حلايب منطقة تكامل اقتصادي.
لم تكن زيارة البشير، إذن، من أجل قضية حلايب، وإنما لأسباب أخرى، ربما منها التأكيد على أنه يقوم بجولات خارجية، على الرغم من قرار التوقيف الصادر بحقه على خلفية اتهامه من المحكمة الجنائية الدولية بارتكابه جرائم حرب في دارفور. وربما يكون، أيضاً، الملف الليبي وتباين وجهات نظر مصر والسودان بشأن دعم طرفي الصراع هناك.